قبل أسابيع، كان سائق الأجرة حسين خليل يقود سيارته في بيروت، ليفاجأ بأن موقعه على الخريطة يُظهره في منطقة رفح الفلسطينية، جراء تشويش يتكرر، معرقلاً النقل الجوي والبري، ويقول لبنان إن إسرائيل وراءه.
ويضيف “تمرّ أحياناً ثلاثة أيام لا نستطيع أن نعمل خلالها على الاطلاق، وأحياناً قد نبقى ساعةً أو ساعتين من دون عمل.. وطبعاً نخسر”.
جراء ذلك، بات خليل يتجاهل الخريطة الالكترونية التي لم تعد تظهر المواقع بدقّة، ويستعيض عن ذلك بالاتصال مباشرةً بالزبون لمعرفة مكانه.
منذ بدء التصعيد على حدود لبنان الجنوبية بين اسرائيل وحزب الله، بعد يوم من شنّ حركة حماس الفلسطينية هجوماً غير مسبوق على جنوب اسرائيل في السابع من تشرين الأول، يلحظ سكّان في بيروت بوتيرة متفاوتة، اضطراباً في عمل الخرائط الالكترونية على غرار “غوغل” المستخدم على نطاق واسع.
في أحيان عدة، عند فتح خريطة غوغل يظهر الشخص على أنه في مطار بيروت حتى لو لم يكن هناك.
ويبدو أن التشويش يتعدى بيروت الى جزيرة قبرص المجاورة، حيث وجدت صحافية فرانس برس نفسها على الخريطة في مطار بيروت بينما كانت في مدينة لارنكا الساحلية. وفي القدس، وضعت الخريطة صحافية في فرانس برس في القاهرة.
وأحياناً، تسافر الخريطة بالمستخدم أبعد من ذلك بكثير، كما حصل مع خليل الذي يعرض صوراً التقطها لشاشة هاتفه تظهره مرةً في رفح، ومرةً أخرى في مدينة بعلبك فيما هو على بعد أكثر من 60 كلم في بيروت.
ويقول السائق بتهكّم “اتصلت بي الزبونة وسألتني: أنت في بعلبك؟! قلت لها لا، أحتاج دقيقتين لأصل الى موقعك”.
“إرباك” حزب الله
يعود الاضطراب في تحديد المواقع عبر تطبيقات النقل على غرار أوبر، إلى تشويش إشارات نظام تحديد المواقع العالمي المعروف أختصارًا بالأحرف الثلاثة: جي بي إس. ويتهم لبنان اسرائيل بالتسبّب به عمداً على خلفية التصعيد مع حزب الله.
ويشرح فريدي خويري، المحلل الأمني لمنطقة الشرق الأوسط في شبكة “راين”، وهي شركة متخصصة في معلومات المخاطر، لفرانس برس كيف أنّ “إسرائيل تستخدم التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي لتعطيل اتصالات حزب الله أو إرباكها” بالدرجة الأولى.
وتلجأ إسرائيل كذلك، وفق خويري، إلى “تقنية تزوير نظام تحديد المواقع العالمي، وهو تكتيك آخر يُستخدم لإرسال إشارات GPS زائفة، بهدف تعطيل وتشويش قدرات الطائرات بدون طيار والصواريخ الموجهة بدقة على العمل أو ضرب أهدافها”، والتي يمتلك حزب الله “ترسانة كبيرة” منها.
حتى 28 حزيران، يظهر مستوى التشويش في موقع “جي بي إس جام” المتخصص بجمع بيانات حول انقطاع إشارات تحديد المواقع الجغرافية، عالياً فوق لبنان ومناطق من سوريا والأردن واسرائيل.
ورداً على سؤال من مكتب فرانس برس في القدس حول التشويش في شمال اسرائيل، اكتفى متحدث باسم وزارة الدفاع الاسرائيلية بالقول “حالياً، نحن غير قادرين على التحدث عن مسائل تشغيلية”.
لكنّ الجيش الاسرائيلي كان أوضح في بداية الحرب بأن اسرائيل عطّلت نظام جي بي إس “بشكل استباقي لمتطلبات تشغيلية مختلفة”.
وأبلغ السكان بأن هذا الإجراء قد يعطل التطبيقات التي تستخدم نظام تحديد المواقع الجغرافية، بعدما ازدادت عمليات التشويش في اليوم التالي للسابع من تشرين الأول، حول غزة لكن أيضا على طول الحدود الإسرائيلية-اللبنانية.
خريطة وبوصلة
لعلّ أكثر ما يقلق لبنان هو تأثير التشويش على الملاحة الجوية، ما دفعه إلى رفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي في 22 آذار، ندّد فيها بـ”اعتداءات إسرائيل على السيادة اللبنانية عبر التشويش على أنظمة الملاحة وسلامة الطيران المدني في أجواء مطار رفيق الحريري الدولي… منذ بدء الحرب على غزة”.
وأوعزت المديرية العامة للطيران المدني بدورها في تعميم إلى الطيارين “الذين يسيّرون طائرات من وإلى مطار” بيروت منذ آذار، “بضرورة الاعتماد على التجهيزات الملاحية الأرضية وعدم الاعتماد على الإشارة التي يلتقطونها عبر جي بي أس نتيجة التشويش القائم في المنطقة” وحفاظا على السلامة، وفق ما يوضح المدير العام للطيران المدني فادي الحسن لفرانس برس.
وجراء ذلك، بات الطيارون يعتمدون على أجهزة الملاحة الأرضية، عوضاً عن استخدام نظام GPS كأساس وأجهزة الملاحة الأرضية كإجراء احتياطي.
ويقول الحسن “لا يعقل أننا في زمن التكنولوجيا، ولا يستطيع طيار يريد الهبوط في مطارنا أن يستفيد من ميزة جي بي اس بسبب التشويش من اسرائيل”.
ويضيف “هذا الأمر غير سليم ولا ينبغي أن يستمر. يجب أن يكون أمام الطيار وسيلتان يستخدمهما عند الهبوط في أي مطار”.
مع ذلك، يؤكد حرص إدارته على “صيانة التجهيزات الملاحية الأرضية في كلّ الأوقات لكي تعطي الاشارات المطلوبة للطيارين للهبوط بشكل آمن بالمطار”.
وبالفعل، يروي آفيديس سيروبيان، الطيار منذ خمس سنوات، أنه تخلى عن الاعتماد على “جي بي إس” في الأشهر الأخيرة.
ويقول “اعتدنا على الأمر، ولا نعوّل عليه إطلاقاً، نتجاهله، ونطير اعتماداً على البوصلة والخريطة الورقية”.
لكن التحديات التي يثيرها هذا التغيير غير مسبوقة.
ويشرح الطيار في اتصال مع فرانس برس “أحياناً نكون على ارتفاع 20 ميلاً (32 كلم) فوق البحر، تظهرنا الشاشة فوق قمة القرنة السوداء (أكثر من 3 آلاف متر فوق سطح البحر)”. ويضيف “تخيلوا حالة الهلع التي قد تصيبنا”.
ويتحدّث عن تحد آخر يطرحه سوء الظروف الجوية. ويوضح “عندما لا ترى الأرض، ماذا يحصل؟ فجأة يتملكنا الخوف عندما نرى أننا في مكان لسنا فيه حقاً. قد يؤدي ذلك إلى حادث أو كارثة”.
المصدر: النهار