تخوض فرنسا في الأسبوع الفاصل عن الدورة الثانية لانتخاباتها التشريعية حقبة جديدة مثقلة بالتحديات الداخلية والخارجية، مهما تكن النتائج التي ستفرزها في ظل الانقسام الحاد وغير المسبوق في تاريخ الجمهورية، الذي عكسته نتائج الدورة الأولى الأحد الفائت.
أي مستقبل ينتظر فرنسا إذا ما حصد اليمين المتطرف غالبية الأصوات، وظلت النتائج على ما أفرزتها الدورة الأولى؟ وأي سياسات ستنتهجها باريس في سياساتها الداخلية والخارجية إذا ما تولى جوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني، الذي لم يبلغ عقده الرابع من العمر بعد، وتقف وراءه زعيمة التجمع اليمينية المتشددة مارين لوبان؟
في انتظار أسبوع حاسم يقدم الأجوبة عن هذه التساؤلات، فيرسم ملامح المرحلة المقبلة وآفاقها، تنظر الأوساط اللبنانية بقلق وترقب إلى الانعكاسات التي سترتبها هذه الانتخابات في ما ستفضي إليه من نتائج على المشهد المحلي، انطلاقاً من العلاقات التاريخية التي تجمع لبنان بفرنسا، والدور الراعي والحاضن الذي حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على القيام به ولا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت قبل أربعة أعوام، والمبادرات التي أطلقها عبر تكليف الوزير السابق جان إيف لودريان مبعوثاً رئاسياً خاصاً له إلى لبنان لتسهيل إنجاز انتخاب رئيس جديد للبلاد، فضلاً عن الدور الحثيث الذي يقوم به السفير في بيروت هيرفيه ماغرو ضمن مجموعة السفراء الخمسة أو عبر مبادرات ثنائية مع القوى السياسية اللبنانية.
لم تنجح ديبلوماسية ماكرون حتى اليوم في إحداث أي خرق في سياسات الدعم المقدمة إلى لبنان. حتى إنه بدأ منذ فترة غير قصيرة يخسر التعاطف الشعبي الذي حصده بعد زيارتيه التضامنيتين لبيروت غداة انفجار المرفأ. فلا على مستوى الاستحقاق الرئاسي نجحت مبادرة ماكرون على تعدّد مراحلها ووجوهها، ولا على صعيد الوضع في الجنوب، حيث لا تزال الورقة الفرنسية الخاصة بطرح حل سلمي لتنفيذ القرار الدولي ١٧٠١، عالقة لدى تل أبيب، في تنافس غير مثمر مع الوساطة الأميركية التي يقودها كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الطاقة #آموس هوكشتاين، علماً بأن الوضع المتراجع للرئيس جو بايدن يقلل حظوظ هوكشتاين في الاستمرار في مهمته!
“تأثير فرنسا على لبنان انتهى من زمان وما بقي كوميديا”، هو أحد التعليقات الساخرة الأولية التي تلقفتها “النهار” لدى السؤال عن انعكاسات تلك الانتخابات على العلاقة مع لبنان، فيما يذهب خبير متابع للشأن الفرنسي إلى التقليل من تلك الانعكاسات، مشيراً إلى أن لبنان تاريخياً لم يلمس أي تغيير جوهري حيال السياسة التقليدية للقوى الفرنسية حياله إن كان من اليمين أو اليسار. ولكن يصعب هذه المرة طبعاً التكهن مسبقاً بطبيعة تعامل السلطة الجديدة المركبة بين يمين متطرّف ووسط (يمثله ماكرون)، علماً بأنه لا بد من الإشارة إلى أن السياسة الخارجية تبقى في يد رئيس الجمهورية، وبالتالي لا يُفترض أن تتغير.
تأثيرات لن يكون في الإمكان تجاهلها في حال فوز اليمين المتطرف، أولها أنه بالرغم من أن السياسة الخارجية تبقى في يد الرئيس لكن الأخير سيكون مكبّلاً بملفات داخلية وأعباء وضغوط بفعل التناقض الواضح في المقاربات بينه وبين الواصلين الجدد إلى السلطة ولا سيما في الملفات المالية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن العلاقات مع دول الاتحاد الاوروبي وموقع فرنسا فيه، ما قد ينعكس تراجعاً في الاهتمام بالملف اللبناني، أو حتى عجزاً عن توظيف أي جهود إضافية له.
أما التأثير الثاني فسيظهر في وضع الجنوب والموقف من “حزب الله”، حيث من المعروف أن اليمين المتطرّف يدعم إسرائيل في حربها على غزة. وهذا موقف علني صدر عن لوبان غداة بدء الحرب. وهذا الأمر سينعكس على التعاطي مع الحزب على نحو تذهب فيه التوقعات نحو تسجيل مزيد من التشدّد حياله.
كذلك سيكون لتولّي حزب التجمع الوطني الحكومة أثره على معالجة ملف الهجرة، حيث من المعروف أن زعيمة التجمع هي من أشد المناهضين للهجرة وسيكون لها دور ضاغط في اتجاه المزيد من التشدد داخل دول الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي يسعى فيه لبنان جاهداً إلى تغيير المقاربة الأوروببة وجعلها أكثر مرونة على نحو يتيح للبلاد التعامل مع أزمة النازحين السوريين وتوفير فرص جدّية لعودتهم
إذن، فإن الديبلوماسية الفرنسية باتت على المحك وسط التحديات غير المسبوقة التي تواجهها، رغم أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها باريس فترات تعايش بين يمين ويسار وبين قوى متصارعة، ولكنها ربما المرة الأولى التي تشهد هذا المستوى من التباين الحاد حول السياسات الداخلية، وحتى الخارجية. لكن مصادر ديبلوماسية قللت من أهميتها انطلاقاً من اقتناعها بأن المعارضة من خارج السلطة تختلف عندما تصبح هي السلطة. والأمر عينه في رأيها، ينطبق على العلاقة بين باريس وتل أبيب أو بينها وبين “حزب الله” الذي يشكّل لاعباً إقليمياً في معادلة الحرب القائمة حالياً.