هل يتجنّب لبنان كأس إدراجه على اللائحة الرمادية؟ أم أنّ الأمور خرجت عن السيطرة؟
يواجه لبنان تحدّيات جسيمة ومعقّدة في سعيه إلى الامتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وهي معايير وضعتها مجموعة العمل المالي (FATF) لضمان نزاهة واستقرار النظام المالي على الصعيد الدولي. هذه التحدّيات ليست مجرّد عقبات تقنية أو قانونية، بل هي انعكاس لتعقيدات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة الجذور.
تعاني البلاد من تداخل السلطات بين القوى السياسية والطائفية، وهو ما يعيق إمكانية تنفيذ الإصلاحات الضرورية بشكل متكامل ومستدام.
في ظلّ هذا الواقع، تصبح جهود الحكومة اللبنانية والمؤسّسات المصرفية لتحقيق الامتثال الكامل لمعايير مجموعة العمل المالي مهمّة شبه مستحيلة، حيث تتداخل التحدّيات التقنية مع معوّقات أعمق ترتبط بتركيبة النظام السياسي والاجتماعي في لبنان. هذه التعقيدات تجعل من الضروري تبنّي نهج شامل يتجاوز الحلول السطحية ويعالج الجذور العميقة للمشكلات التي يواجهها البلد.
التّحدّيات الحاليّة
يتعرّض لبنان حالياً لضغوط متزايدة من مجموعة العمل المالي (FATF) للامتثال للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. في تقويمها لعام 2023، وجدت مجموعة العمل المالي أنّ لبنان يعاني من قصور كبير في هذه الجوانب، وهو ما أدّى إلى تمديد المهلة الممنوحة للبنان لتحسين وضعه حتى تشرين الأول 2024. إذا لم يتمكّن لبنان من تحقيق الامتثال، فقد يتمّ إدراجه مرّة أخرى في “القائمة الرمادية”، وهو ما قد يؤدّي إلى تداعيات خطيرة على قطاعه الماليّ المنهك بالفعل.
العوامل المؤثّرة على الامتثال
1- الإرادة السياسية: يشهد المشهد السياسي في لبنان انقسامات حادّة حيث تأخذ المصالح الطائفية الأسبقية على المصالح الوطنية. هذا التشرذم يعيق الجهود الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، خصوصاً في ظلّ وجود جهات غير حكومية مؤثّرة مثل الحزب.
2- القدرة المؤسّسية: تعاني مؤسّسات الدولة اللبنانية من ضعف شديد بسبب الصراعات المستمرّة والفساد المنتشر. المؤسّسات مثل السلطة القضائية ووكالات إنفاذ القانون تعاني من التدخّلات السياسية وقلّة الموارد، وهو ما يعيق قدرتها على فرض وتنفيذ قوانين مكافحة غسل الأموال.
3- القطاع المصرفي: تواجه المصارف اللبنانية تحدّيات كبيرة في الحفاظ على علاقاتها مع المصارف المراسلة الأجنبية. وهي علاقات حيوية لضمان تدفّق الأموال والخدمات المالية عبر الحدود. إنّ استمرار هذه العلاقات أمر بالغ الأهمية لتجنّب العزلة عن السوق المالية العالمية، حيث تعتمد المصارف اللبنانية بشكل كبير على تلك المراسلات لإجراء التحويلات المالية وتسهيل التجارة الدولية.
في هذا السياق، أصدر مصرف لبنان تعاميم أساسية، مثل التعميم رقم 165 و168، في الأشهر الماضية بهدف تعزيز الامتثال للمعايير الدولية وتحقيق قدر أكبر من الشفافية في القطاع المصرفي. هذه التعاميم تلزم المصارف بتقديم تقارير دقيقة ومفصّلة حول هيكلية الملكية والإدارة، بالإضافة إلى تعزيز الرقابة على العمليات المالية وتطبيق إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
من جهة أخرى، تسعى هذه التعاميم إلى تشجيع المواطنين على العودة لاستخدام النظام المصرفي الرسمي وتجنّب الاعتماد المفرط على النقد. ومع ذلك، تكشف هذه الإجراءات أيضاً عن مدى تعقيد الوضع في لبنان، حيث إنّ تطبيقها يواجه تحدّيات مرتبطة بالفساد المستشري وضعف المؤسّسات الحكومية، وهو ما يزيد من صعوبة تحقيق الامتثال الكامل ويضع القطاع المصرفي في موقف حسّاس أمام المجتمع الدولي. إذا لم تنجح المصارف اللبنانية في الامتثال للتعليمات الجديدة واستعادة ثقة المودعين والمستثمرين، فقد تجد نفسها معزولة بشكل أكبر عن النظام المالي العالمي، وهو ما يزيد من تفاقم الأزمة الاقتصادية والماليّة في البلاد.
الاعتماد على النّقد
من القضايا الحرجة التي تواجه لبنان في مكافحة غسل الأموال الاعتماد المفرط على النقد في المعاملات المحلية. هذا الاعتماد يعقّد من جهود تتبّع التدفّقات المالية غير المشروعة، ويضعف من فعّالية النظام المصرفي الرسمي.
الطّريق إلى الأمام: حلول واقعيّة للبنان
للخروج من الأزمة الراهنة وتحقيق الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي، يفترض أن يتبنّى لبنان نهجاً متكاملاً يجمع بين الإصلاحات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية. وفي ما يلي خطوات عمليّة يمكن أن يتفاعل معها المواطن اللبناني بشكل مباشر:
1- المصالحة الوطنية والحوار الشامل
تعزيز الثقة بين المواطنين والحكومة: يجب على الحكومة أن تعمل على بناء جسور الثقة مع المواطنين من خلال تحسين الشفافيّة والمساءلة. يمكن تحقيق ذلك من خلال تفعيل دور المؤسّسات الرقابية وضمان استقلالية القضاء. إلى جانب إطلاق حوارات محلّية: يمكن تشجيع اللقاءات المحلّية والمبادرات الشعبية التي تجمع مختلف الفئات والطوائف لمناقشة مشاكلهم واقتراح حلول تعزّز الوحدة الوطنية وتدعم جهود مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
2- تعزيز مؤسّسات الدّولة
– إصلاحات في الحوكمة: يجب أن تركّز الجهود على إصلاح هيكليات المؤسّسات الحكومية لضمان الشفافية والمساءلة. يحتاج المواطنون إلى رؤية خطوات فعليّة نحو تقليص الفساد، بدءاً من مراقبة عمليات التعيين في القطاع العامّ وصولاً إلى تطبيق العقوبات على الفاسدين.
– دعم القوى الأمنيّة الوطنية: تحسين ظروف العمل والتدريب للقوى الأمنيّة والجيش اللبناني لضمان قدرتهم على فرض سيادة القانون بدون تدخّلات سياسية أو طائفية. يجب أن يشعر المواطن بالأمان وأن تكون لديه ثقة بأنّ الدولة قادرة على حماية حقوقه.
3- الانتقال إلى الاقتصاد الرّقميّ
– تشجيع الدفع الإلكتروني والخدمات المصرفية الرقمية: في ظلّ الاعتماد الكبير على النقد، يجب على الحكومة والبنوك توفير وتسهيل استخدام أنظمة الدفع الإلكتروني. يمكن أن يشمل ذلك تقديم حوافز للمواطنين الذين يستخدمون طرق الدفع الرقمية، بالإضافة إلى توسيع البنية التحتية لتشمل المناطق النائية.
– حملات توعية وتثقيف: لتعزيز الثقة بالاقتصاد الرقمي، يجب إطلاق حملات توعية تشرح فوائد الانتقال إلى الاقتصاد الرقمي وكيفية حماية البيانات الشخصية.
4- إصلاح القطاع المصرفيّ
– تعزيز الشفافية والمساءلة في البنوك: يجب على البنوك أن تلتزم الإفصاح عن كلّ معاملاتها بشكل واضح وشفّاف. هذا يتطلّب تحديث القوانين المصرفية لضمان أن تكون جميع الأنشطة المالية تحت رقابة دقيقة.
– إعادة بناء الثقة بين المصارف والمودعين: يجب على كلّ مصرف على حدة أن يعمل على استعادة ثقة المواطنين من خلال الالتزام بحماية ودائعهم وشفافية سياساته المالية. المواطنون بحاجة إلى ضمانات بأنّ أموالهم في أيدٍ آمنة.
5- التّعاون مع المجتمع الدّوليّ
– الشراكة مع المنظّمات الدولية: على لبنان أن يستفيد من دعم المجتمع الدولي من خلال التعاون مع الهيئات العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذا التعاون يجب أن يركّز على توفير الدعم الفنّي والماليّ لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.