كتب داني حداد في موقع mtv:
لا أحبّذ عبارة “موت لبنان الذي نعرفه”. هذا الـ “لبنان” يقاوم حاليّاً، ومن يفعل ذلك هي المقاومة الحقيقيّة التي تعادي إسرائيل وترفض اغتصابها لأيّ شبر أرض، ولكنّها تقاوم أيضاً ثقافة الشادور (ولا أقول الحجاب)، وما يرتبط بها من وسائل غسل دماغ وطقوس لا صلة لها بلبنانيّتنا، مسيحيّين ومسلمين.
سأقولها صراحةً: يزداد بعض المسلمين تخلّفاً، ويزداد بعض المسيحيّين تعصّباً. فريقان يدمّران الوطن. والوطن ليس الحجر، ولا الأرزاق التي تُدمَّر في الجنوب. الوطن هو هذه الخلطة العجيبة التي صنعت لبنان وميّزته عن كلّ أرضٍ عربيّة، مهما ارتفعت فيها ناطحات سحاب وكثرت فيها آبار نفط.
ثقافتنا في لبنان ليست “ماكدو”، ربما، ولكنّها ليست بالتأكيد “لبّيك يا نصرالله”، ولا أيّ أحدٍ آخر، كغنمٍ تجيّشنا طائفيّتنا. ولا المناداة بمقاطعة “ستاربكس” من هواتف “آيفون”، وعبر منصّة “أكس”!
ثقافتنا فيروز والرحبانيّان وجبران خليل جبران ومعهم مئات، من كتّابٍ وشعراء ورسّامين وراقصين ومبدعين لم تنجب مثيلاً لهم أيّ دولةٍ عربيّة، حتى مصر التي يفوق عدد سكّانها الـ ١٠٥ ملايين.
ثقافة لبنان أن تفصل أمتارٌ بين كنيسةٍ وجامع، أو أن تمضي في إيمانك الخاصّ، حتى الإلحاد. أن تصلّي، من دون أن ترغم الآخر على الصلاة. أن تشرب وترقص حتى الفجر، من دون أن يتّهمك أحدٌ بالكفر. أن تعبّر عن رأيك من دون أن ينعتك أحدٌ بالعمالة.
ثقافة لبنان فتاةٌ تخرج من منزلها الى العمل أو الجامعة أو المقهى أو الملهى، وهي ترتدي ما تريد من دون أن يرفع أحدٌ عليها سوط الدين والأخلاق.
ثقافة لبنان هو أن تكون لبنانيّاً، من دون أن تتقدّم في تفكيرك مصلحةٌ سوريّة أو سعوديّة أو إيرانيّة أو أميركيّة…
لبنان الذي نعرفه كانت تُصوَّر فيه أفلامٌ أميركيّة قبل الحرب، وبات، في أفلام اليوم، مساحةً للإرهاب يظهر مطاره، كما في أحد الأعمال الأميركيّة، كقاعدةٍ لطالبان.
لا نريد كابول أخرى، ولا تستهوينا طهران، ولا نعوّل على أميركا، وما عدنا نرى في فرنسا أمّاً حنونة. نريد لبنان الذي تجهز سفرةٌ في مطاعمه في دقائق قليلة، ويصبّح عليك جارك من شرفته، وتسمع عبارات الضيافة “طِلّ” و”ميّل” و”خلّينا نشوفك” و”يا هلا”… بدل الرؤوس الحامية التي تطلّ اليوم من تطبيقات الهاتف، تصنّف الناس بين “صهيوني” و”يهودي”، كأنّ الوطنيّة تُختصر بوجهة نظرها.
لا نريد حرباً، ونتمنّى إزالة إسرائيل لكنّنا ندرك استحالة ذلك. فلنبحث إذاً عن وسيلةٍ لنتعايش مع وجودها. لا تريدون سلاماً؟ حسناً، فلتكن هدنة تكفّ عبرها شرّها عنّا. وليتوقّف مسلسل الدم، والدمار والموت والشهادة، والكلمة الأخيرة يذكّرنا بعض الأغبياء بضرورة استخدامها في توصيف من يموتون، وهي غير مهنيّة. كان الحريّ بهؤلاء أن يعترضوا على الموت الذي يأخذوننا إليه من أجل يحيى السنوار ورفاقه في المحور.
لا نريد حرباً من أجل بلدٍ آخر. نغنّي لفلسطين وننظم القصائد، ونعقد الندوات، وكفى. لا نحارب ولا نموت. متنا بما فيه الكفاية، وما مات أحدٌ من أجلنا يوماً.
لن يموت لبنان الذي نعرفه. لبنان قصص النجاح التي تملأ العالم، طبّاً وهندسةً وفنوناً وعلوماً وأدباً… لبنان الذي يخرج فيه صوت فيروز من الشبابيك في الصباح، كصلاةٍ جامعة. لبنان الـ “إذا جاري بخير أنا بخير”. لبنان الـ “كاسَك”، و”سهار، بعدا السهرة بأوّلا”. لبنان الذي يصنع الفرح، وينكّت، حتى على الهزّات الأرضيّة المرعبة.
هذا الـ “لبنان” لا يُدمّر بمسيّرة، ولا يغتاله صاروخ. وسنبقى نقاوم، بأكثر من وسيلةٍ، لكي يبقى على الحياة. إن مات، ما عادت تنفع حياةٌ. إن مات، سنموت بعده.