«اللايقين» كان سمة عقد من التقييم للوضع على الحدود بين لبنان وكيان الاحتلال، والصفة التي رافقت كل حديث عن احتمال الانفجار. وبعيداً عن المؤشرات السياسية والميدانية الصلبة، فإن لعبة النوايا لا تساعد أحداً على تهدئة النفوس.بعد عملية «طوفان الأقصى»، في 7 تشرين الأول الماضي، صُدم العدو بما فعلته «حماس»، إذ جاءت العملية مخالفة لكل أنواع التقدير السياسي والأمني والعسكري. بعدها، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع جديد، وقرّرت أن تتصرف وفق المثل الشعبي «لا تنم بين القبور ولا ترَ أحلاماً موحشة»، وهو ما دفع إلى اقتراح أركان العسكر والأمن على الحكومة، بعد أربعة أيام على عملية «حماس»، شنّ هجوم على لبنان، بحجة استباق أي محاولة من حزب الله للقيام بعملية مشابهة لطوفان الأقصى. وحتى في تلك اللحظة، كان العدو أسير السمة نفسها: اللايقين!
أمس، سُرّبت مواقف لوزير الحرب يؤاف غالانت قال فيها، أمام نواب من لجنة الشؤون الخارجية والأمن، إنه هو من اقترح العملية ضد لبنان في 11 تشرين الأول الماضي، وإنه لا ينصح بها اليوم. وهو ما يعيدنا إلى تسريبات أوسع عن ذلك الاجتماع، عندما أمسك غادي آيزنكوت بيد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في اجتماع الكابينت، وتوسّل إليه بأن يقول رأيه، وأن الحرب مع لبنان تمثل مغامرة كبيرة. ولاحقاً، تباهى رئيس الأركان السابق بأنه منع إسرائيل من ارتكاب خطأ استراتيجي بشنّ الحرب على لبنان، ومنع تحقق حلم قائد «حماس» يحيى السنوار بإشعال كل الجبهات دفعة واحدة.
العودة إلى وقائع تلك الأيام توضح سبب امتناع بنيامين نتنياهو عن السير في خيار الحرب ضد لبنان، كون الرجل كان، ولا يزال، يركّز على هدف آخر. صحيح أنه برّر موقفه بأن المعركة مع لبنان ستكون قاسية. لكنه قال أيضاً إنه لا يوجد مبرر ولا هدف مشروع للحرب. وفي المقابل، طلب من جميع المسؤولين في الكيان أن ينضموا إليه في معركة «محو العار الذي تمثّل في كارثة 7 أكتوبر»، وفي باله برنامج عمل آخر، لا يزال محل تطبيق منذ أكثر من عشرة أشهر، وهدفه الوحيد، تدفيع الفلسطينيين ثمن عملية طوفان الأقصى بإسقاط فكرة حقهم في تقرير المصير.
لكنّ نتنياهو الذي تذرّع بالحرب على غزة، لعدم مهاجمة حزب الله، عاد بعد عشرة أشهر من القتل من دون تحقيق السقف الأدنى من أهدافه، ليناقش مسألة الحرب مع لبنان. وهو يفعل ذلك الآن من زاوية أن الترابط بين أطراف محور المقاومة يشتد يوماً بعد آخر، وأن حلفاء «حماس» في الشمال باتوا يشكلون خطراً على المهمة المركزية. وأضاف إليها الضرر الناجم عن جبهة الإسناد اللبنانية، فقرّر المغامرة من خلال تنفيذ عملية اغتيال القائد الجهادي فؤاد شكر، قبل أن يبعث برسالة إلى رأس المحور، باغتيال القائد إسماعيل هنية في طهران.
اليوم، تواجه إسرائيل تهديدات يتعامل معها الكيان بجدية كبيرة، تدفع جمهور الكيان إلى مزيد من الانتظار المصحوب بتوتر وقلق. فكل رسائل الطمأنة من الجيش لمنع انتشار الذعر لم تؤدّ غرضها، لأن سكان الكيان يشاهدون الحشود العسكرية العالمية الآتية لحماية إسرائيل، ويخشون ما هو أبعد من رد إيران وحزب الله، بل يتلمّسون أطراف حرب واسعة يسعى إليها البعض في هذه المنطقة من العالم. مع الإشارة إلى أن جمهور الكيان مقتنع، كما قياداته العسكرية والأمنية، بأن أي ضربة من جانب إيران أو حزب الله لن تستهدف مدنيين أو منشآت مدنية.
ولأن الخشية موجودة أساساً عند جيش الاحتلال، أمكن خلال الأيام القليلة الماضية جمع معطيات حول بعض ما قام به جيش العدو:
أولاً: التعبئة العامة بدرجة تحاكي ما حصل عشية الهجوم على غزة، مع فارق أن الاستنفار يشمل كل أسلحة واختصاصات العدو، والشروع في عملية هي الأولى من نوعها في تاريخ الكيان، بإفراغ جميع الثكن والمواقع العسكرية الواقعة ضمن شعاع يمتد إلى شمال تل أبيب، من الجنود ومن بعض المعدات، بما فيها مقرات تابعة للأجهزة الأمنية وسلاح الاستخبارات ومراكز مدنية تخدم الجيش، مع التشديد على منع الجنود من التجمع في أي موقع عسكري معروف، واللجوء إلى عمليات تمويه أكبر في كل مناطق تواجد قوات العدو.
ثانياً: إعادة توزيع منصات القبة الحديدية ومنظومات الدفاع الجوي الأخرى، وفق خريطة جديدة، إذ نُقل قسم كبير منها لنصبه بالقرب من مواقع يعتبرها العدو استراتيجية أو ذات حيوية مركزية بالنسبة إلى الكيان. وهذا يعني، ببساطة، أن على جمهور العدو معرفة أن قيادته العسكرية تهتم بحماية بعض الأسلحة النوعية أكثر من اهتمامها بالتجمعات السكانية الواسعة، وهو ما يتناقض مع سردية الاحتلال عن أن المقاومة قد تستهدف تجمعات مدنية.
ثالثاً: وضع برنامج عمل مختلف لسلاح الجو الإسرائيلي، مع إرسال عدد كبير من المُسيّرات الاستطلاعية والهجومية فوق المناطق اللبنانية على مدار الساعة، فيما تعمل مُسيّرات خاصة بالجيشين الأميركي والبريطاني في مواقع أخرى في المنطقة. وتغذي هذه المُسيّرات غرف القيادة بالمعلومات المُحدثة كل ساعة عن ما يوصف بـ«التحركات الخاصة» لقوات إيران أو حزب الله.
رابعاً: تذخير المقاتلات الحربية واستنفارها بصورة مفتوحة للتصدي لأي هجوم مفاجئ أو لعمل استباقي هدفه إحباط هجوم يجري تفعيله من قبل حزب الله، وإعادة التواصل مع «بلدان صديقة» لتفعيل تفاهمات سابقة، تتعلق باحتمال لجوء العدو إلى أراضي هذه الدول، أو مطاراتها العسكرية في حالة الحرب الكبرى، أو في حال تعرض مطارات العدو للضرب.
خامساً: إطلاق أكبر عملية استنفار في الضفة الغربية خشية حصول عمليات نوعية بالتزامن مع أي هجوم يشنه حزب الله أو إيران من الخارج، واستنفار في غلاف غزة أيضاً، خشية أن تكون المقاومة الفلسطينية تستعد بدورها للقيام بعمليات نوعية تزامناً مع الهجوم من الشمال، بما في ذلك، الطلب إلى سكان المستوطنات في الضفة اتخاذ الاحتياطات اللازمة خشية تعرضهم لهجمات منسّقة من جانب خلايا للمقاومة يتم تشغيلها من قبل حزب الله أو إيران.
سادساً: رفع مستوى التنسيق بين أجهزة العدو الأمنية والعسكرية وبين القواعد الأميركية والبريطانية والفرنسية والقوات الألمانية في كل المنطقة، خصوصاً في السعودية والأردن وسوريا والعراق وقبرص واليونان وجنوب أوروبا ومياه البحر المتوسط، وتبادل المعطيات ساعة بساعة، في سياق مناورة مفتوحة للتدرب على شكل التعاون في مواجهة الهجمات المنتظرة من إيران ولبنان والعراق واليمن.
سابعاً: الشروع في «تفعيل صامت» لخطة طوارئ داخلية هدفها الاستعداد لمواجهة أيام قتالية أو جولة غير محدودة من التراشق. وتستند هذه الخطة إلى فرضية أن يكون الرد غير مقتصر على ضربة واحدة أو يوم واحد، أو أن يكون هناك رد من إسرائيل، ما يقود إلى توسع المواجهة. وهذه الخطة ستنعكس في حال تحولها إلى أمر واقع بلبلة لا يمكن العدو التكهن بنتائجها على صعيد جمهوره.
خلال الأيام القليلة الماضية، قال مراقبون أجانب يعملون في منطقتنا إنهم يلاحظون «عسكرة غير مسبوقة في شرق المتوسط»، ما يعطي الانطباع بأن المنطقة مقبلة على مواجهة كبيرة جداً، وهو احتمال قائم إذا لم يعمد الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى لجم إسرائيل وإقناعها بأن عليها تقبل ثمن جرائمها في لبنان وإيران، علماً أن الأميركيين ينشطون بقوة لتحقيق اختراق في المفاوضات، ويأملون أن تتجاوب معهم «حماس» أولاً، ويطلبون من مصر وقطر إقناعها بتقديم تنازلات إضافية، لمساعدتهم على إقناع نتنياهو وحكومته بصفقة تحقق وقفاً لإطلاق النار، ولو لمرحلة أولى تمتد لستة أسابيع. كما عاد الأميركيون إلى الحديث عن «وديعتي بايدن»، سواء الشفهية التي نُقلت إلى «حماس» وتتمثل في استعداد الرئيس الأميركي جو بايدن للتصريح بالتزامه بالعمل لعدم العودة إلى الحرب، أو تلك الخطية التي يقول قادة العدو إنهم انتزعوها من بايدن نفسه، والتي تسمح لهم بالعودة إلى الحرب متى وجدوا أن الصفقة لا تسير وفق الاتفاق… في هذه الأثناء، يتسلى الجميع بمحاولة فك أحجية الرد من جانب إيران وحزب الله، علماً أن هناك ماكينات إعلامية متوثّبة للتعامل مع الحدث، بين حدَّي اتهام إيران والمحور بتصعيد الحرب، أو التقليل من أهمية الرد واعتبار إسرائيل الطرف المنتصر!.
وحدهم أهالي غزة، لا يعرفون أين ينامون، وهل سيطلع الصباح عليهم أحياء، قبل أن يلجأوا إلى تمرين العدّ علّهم لا ينقصون، وسط حفلة جنون دموية، تجعل من الصعب على أحد في العالم أن يتحدث عن مستقبل مع هذا الكيان ومع هذا النوع من البشر!
المصدر : الاخبار