لم يعد الحديث عن خلافات وتباينات في صفوف “التيار الوطني الحر” مجرّد حبرٍ على ورق، أو تكهّنات قد تصيب وقد تخطئ، أو حتى مجرّد أمنيات وأحلام لدى الخصوم، فعدّاد الخارجين من “التيار” يتصاعد منذ وصول الوزير السابق جبران باسيل إلى قيادته، خلفًا للرئيس السابق ميشال عون، إما بالطرد والفصل، نتيجة ما يوصَف بـ”مخالفة” الأنظمة والقوانين، أو بالاستقالة الطوعية، احتجاجًا على ما يصفه المعترضون بالأحاديّة في اتخاذ القرارات
وإذا كانت عمليات الفصل من “التيار” شملت على مدى السنوات الأخيرة الكثير من الناشطين والقياديّين، الذين اتُهِموا بـ”التمرّد” على قيادة الحزب، ومخالفة السياسات والتوجيهات الرسمية، فإنّها وصلت أخيرًا إلى “نخبة” النواب، حتى خسرت كتلة “التيار” البرلمانيين ثلاثة نواب دفعة واحدة، هم الياس بو صعب وآلان عون وسيمون أبي رميا، وهو عدد قابلٌ للارتفاع، بوجود أكثر من مرشح ليكون “التالي” على لائحة الـ”Nominees”، إن جاز التعبير.
وسواء كان ما يحصل أمرًا طبيعيًا، باعتبار أنّ من يمثّل “التيار” يجب أن يلتزم بسياساته وقراراته، وبالتالي لا يجوز له أن يغرّد على هواه، وهذه قاعدة بديهية في الأحزاب السياسية، أو أنه يؤشّر إلى ظاهرة “غير صحية”، باعتبار أنّ عدد الخارجين يدلّ على وجود مشكلة حقيقية في القيادة، فإنّ النتيجة المباشرة لما حصل أنّ كتلة “التيار الوطني الحر” تراجعت، وبالتالي ما عادت تنافس كتلة “القوات اللبنانية” على صدارة التمثيل المسيحي.
لكن، أبعد من هذه النتيجة، التي يرى كثيرون أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر بانتظار الانتخابات النيابية المقبلة، التي ستكون وحدها قادرة على “حسم” التغيّرات التي طرأت على الواقع الشعبي المسيحي، ثمّة الكثير من علامات الاستفهام التي تُطرَح، حول انعكاسات وتبعات ما حصل أخيرًا، على مستوى “التيار الوطني الحر” أولاً، وعلى مستوى النواب المنسحبين ثانيًا، فهل يستطيعون فعلاً تشكيل “نواة” كتلة، تتيح لهم نوعًا من الاستمرارية؟!.
قد يكون قرار طرد النائب آلان عون من “التيار الوطني الحر”، بعد فصل النائب الياس بو صعب قبله، والذي بقي “غير مُعلَن” لفترة طويلة، قيل إنّها شهدت “وساطات” لتقريب وجهات النظر، نقطة تحوّل فعليّة في “الصراع” بين باسيل وخصومه داخل “التيار”، وهي عبارة يقول المحسوبون على باسيل إنّها وحدها كافية للدلالة على وجود مشكلة جذرية، إذ كيف يمكن الحديث عن “خصوم” لحزبٍ ما، داخل الحزب نفسه، وأن يمرّ ذلك مرور الكرام؟.
بهذا المعنى، يشدّد الدائرون في فلك باسيل على أنّ فكرة “التمايز” داخل “التيار” لا يمكن أن تكون مقبولة، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، ويوضحون أنّ الاختلاف في الرؤى أمر بديهي، والنقاش الديمقراطي بشأنها يحصل داخل “التيار”، وليس عبر وسائل الإعلام، لكن من غير المسموح أن يشرّع النواب لأنفسهم أن يخالفوا القرارات التي يخرج بها “التيار” في النهاية، بمعزل عن الحيثيّة التي يتمتعون بها أو التاريخ النضالي الذي يستندون إليه.
المشكلة، وفق هؤلاء، أنّ النواب المعترضين على القرارات، والذين لا يتردّدون في مخالفتها، وصولاً لحد التصويت في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، خلافًا للقرار المُعلَن من قبل رئيس “التيار”، يقاطعون أساسًا الاجتماعات التي يفترض أن يناقشوا فيها هذه القرارات، فهم يتمنّعون منذ أشهر عن حضور اجتماعات التكتل والهيئة السياسية، كما اجتماعات المجلس السياسي والمجلس الوطني، ومع ذلك يشتكون من عدم وجود ديمقراطية في “التيار”.
أكثر من ذلك، يستغرب المحسوبون على “التيار” أن يخرج بعض المحسوبين على أحزاب أخرى، ليتضامنوا مع النواب المفصولين أو المستقيلين، وليتباكوا على “التيار”، في حين أنّ هذه الأحزاب لا تسمح أصلاً بأيّ نوع من الديمقراطية حتى في داخلها، متسائلين: هل يرضى المنتمون لهذه الأحزاب، أن يخرج أحد النواب المحسوبين عليهم، لينتخب مرشحًا رئاسيًا، غير الذي تدعمه قيادتهم، أو ليجاهر بموقف مخالف لسياسات الحزب؟!.
قد يكون كلام الدائرين في فلك باسيل والمؤيدين لوجهة نظره “مقنعًا” في الظاهر، ولا سيما أنه يبدو منطقيًا وبديهيًا، لكنّ مشكلته وفق ما يقول المؤيدون لوجهة نظر الناشطين المعارضين له، أنه بكلّ بساطة “منفصل عن الواقع”، فهذا الكلام قد يكون مقبولاً إذا كانت المشكلة “محصورة” في ناشط، أو حتى في مجموعة ناشطين، ولكنه لا يمكن أن يكون كذلك عندما يتحوّل إلى ظاهرة تمتدّ إلى “نخبة” القياديين، وأصحاب التاريخ النضاليّ الطويل.
يقول هؤلاء إنّ طريقة تعاطي قيادة “التيار” مع هذه الظاهرة غير الصحية، هي المُستغرَبة، ويندرج ضمن ذلك مثلاً البيان الذي أصدرته ردًا على استقالة أبي رميا، والذي لم يَخلُ من الإساءات بحقّ نائب مثّل “الوطني الحر” على مدى دورات وولايات متعاقبة، فضلاً عن كونه من الوجوه التي رافقت مسيرة “التيار” الطويلة منذ أيام النضال، وقد تعمّد أن تأتي استقالته في ذكرى السابع من آب تحديدًا، لما لهذا التاريخ من رمزيّة لـ”العونيّين”.
وإذا كان هؤلاء يعتبرون أنّ قرار إخراج آلان عون، ومن بعده سائر النواب أصحاب الحيثية، مُتّخَذ منذ فترة طويلة، ولو أنه صدر في توقيت “مريب” في ذروة الانشغال باحتمالات تطور الحرب الإسرائيلية، فإنّهم يشدّدون على أنّ مشكلة باسيل مع هؤلاء النواب ليست في أنّهم خالفوا قراراته أم لم يفعلوا، بل بكلّ بساطة أنّهم غير جاهزين ليكونوا “أتباعًا” له، وبالتالي يشكّلون منافسين جدّيين له على قيادة “التيار” في المستقبل، وهذه تحديدًا هي كلمة السرّ.
أما وقد حصل ما حصل، وسواء توسّعت حركة الخروج من “التيار” أم لا، في ظلّ الحديث عن “إعادة تموضع” بعض النواب الذين أرادوا “التضامن” مع عون بعد فصله، تتّجه الأنظار إلى الانعكاسات المحتملة سواء بالنسبة إلى “التيار” الذي يقول المحسوبون على باسيل إنه لن يتأثّر، أو بالنسبة إلى النواب أنفسهم، الذين يقال إنّهم يبحثون في “البدائل” التي تسمح لهم باستثمار الحيثية السياسية التي بنوها على مرّ السنوات.
بهذا المعنى، يصرّ الدائرون في فلك باسيل على أنّ “التيار” يقوم في النهاية على مبادئ وثوابت، وليس على الأشخاص، وبالتالي فمهما كبرت “كرة ثلج” الخارجين منه، فإنّ الثابت أنّه هو الباقي، وهي وجهة نظر يستغربها المعترضون، لما تنطوي عليه برأيهم من “إساءة” ليس لهؤلاء النواب، بل لكلّ مناضلي “التيار”، علمًا أنّ القاصي والداني يدرك برأي هؤلاء، أنّ خروج بو صعب وأبي رميا وعون، سيؤثر سلبًا على “التيار” في مناطق هؤلاء.
لكن هل يكفي ذلك ليتمكّن هؤلاء النواب من منافسة “التيار” فعلاً، أو بالحدّ الأدنى، من تشكيل كتلة موازية، تجمع قدامى “التيار”، أو من يصفون أنفسهم بـ”العونيّين الحقيقيين”؟ قد يكون من المبكر لأوانه الإجابة على هذا السؤال، ولو أنه بدأ يُطرَح جدّيًا في العديد من الأوساط، حتى إن هناك من بدأ يبحث بالتحالفات المحتملة، في ظلّ انطباع لدى كثيرين، بأنّ استمرار باسيل على هذا النهج، قد يفرغ “التيار” من مضمونه، أو يجعله رئيسًا على تيار بلا “عونيّين”!.
المصدر : النشرة