اعتباراً من مساء اليوم الجمعة تتراجع السياسة وتتقدّم الرياضة في المشهد الفرنسي، حيث تتصدّر الألعاب الأولمبية وحفل افتتاحها الخبر. هو افتتاح يُحاكي التاريخ أرادته اللجنة المنظمة استثنائياً.
تاريخ الألعاب التي بدأها اليونانيون في القرن السابع قبل المسيح، وأعاد إحياءها الفرنسي بيار دو كورباتان في نهاية القرن التاسع عشر، كانت دورتها الأولى في اليونان في 1869 والثانية في باريس في 1900.
خلال أكثر من قرن جالت الألعاب الأولمبيّة في القارّات والبلدان. وها هي تعود إلى فرنسا في دورتها الثالثة والثلاثين. يشارك فيها 10,500 لاعب. يتبارون على مدى 19 يوماً للفوز بالميداليات الذهبيّة. يسهر على تنظيم مبارياتهم أكثر من 45 ألف شخص، وعلى أمنها 35 ألف عنصر أمن يومياً. كما يغطّيها أكثر من 6,000 صحافيّ، ويحضرها 9.7 ملايين نسمة، ويشاهدها المليارات عبر الشاشات.
افتتاح غير مسبوق في التّاريخ
في العقود الأخيرة زادت منافسة الدول على الفوز بتنظيم الألعاب الأولمبيّة وفي تقديم أضخم العروض في افتتاحها. ولكنّ كلّها لم تخرج من الحيّز الجغرافيّ ذاته، ألا وهو الملاعب الرياضيّة. فيها تُستعرض الفرق المشاركة وهي حاملة أعلام بلادها. وتُشيّد منصّة رسميّة. ويحضر عدد من الناس بحسب عدد مقاعد المدرّجات في الملعب. وفي النهاية تُطلق المفرقعات الناريّة الضخمة.
الأمر سيكون مختلفاً مساء اليوم الجمعة في باريس حيث يفتتح الفرنسيون الألعاب الاولمبيّة في مياه نهر “السين”.
افتتاح على طول “السِين”
الاحتفال سيكون على امتداد 6 كيلومترات من النهر. يُستخدم فيه 185 باخرة وعوّامة. تستقلّ الفرق الرياضيّة 85 منها. ترفع عليها أعلام بلادها. وتُقدّم العروض الفنيّة. فالاحتفال لهم. هُم سيكونون الأبطال. وقد شيّدت المنصّات على ضفّتي النهر وعلى الجسور الثمانية التي يعبر تحتها موكب الافتتاح. المنصّات تَسَع لحضور 300 ألف شخص. وهو عدد غير مسبوق لجمهور يحضر مباشرة ليس فقط حفل افتتاح الألعاب الأولمبيّة إنّما أيّ احتفال رياضيّ أو فنيّ آخر.
ينطلق الموكب عند الساعة 7:30 مساء من الجمعة 26 تموز من جسر أوسترليتز الواقع شرق المدينة. وهو أحد أقدم الجسور التي شيّدت فوق نهر السين وانتهت الأعمال فيه عام 1807 وسُمّي بجسر أوسترليتز تخليداً لذكرى المعركة التي انتصر فيها نابوليون الأوّل ضدّ إمبراطور النمسا فرانسوا الأوّل وإمبراطور روسيا الإسكندر الأوّل. هل هو لتذكير “قيصر روسيا” الجديد بهزيمة أسلافه؟! ربّما.
يمرّ موكب الألعاب الأولمبيّة بالمعالم التاريخيّة لـ”مدينة الأنوار”: كاتدرائية سيّدة باريس (أيقونة العاصمة التي احترقت لها ملايين القلوب في فرنسا والعالم عندما التهمت النيران قبّتها التاريخيّة)، متحف اللوفر (أحد أشهر المتاحف العالميّة)، برج إيفل (رمز المدينة) وغيرها من معالم المدينة التاريخيّة، وصولاً إلى التروكاديرو التي يصلها عند الساعة 9:45. هناك يُقام الاحتفال الرسميّ الذي يتقدّمه إيمانويل ماكرون. فهو عاد للظهور على الفرنسيين بعد فترة “كسوف” سياسيّ بدأت مع صدور نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعيّة. اختار أن يُطلّ على الفرنسيين من بوّابة الألعاب الأولمبيّة ليُطلق أكثر من رسالة سياسيّة.
هدنة سياسيّة
منذ بداية الأسبوع راح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يجول في مراكز الألعاب الأولمبيّة. بينها المدينة الأولمبية التي تُقام لسكن اللاعبين. في مثل تلك المدينة في ميونيخ اختطف الكومندوس الفلسطينيّ عدداً من اللاعبين الإسرائيليين عام 1972. عملية يذكرها العالم في كلّ ألعاب أولمبيّة. وقد خصّصت السلطات الفرنسيّة تدابير أكثر من استثنائيّة للّاعبين الإسرائيليين خوفاً من التعرّض لهم على خلفيّة الحرب الوحشيّة التي يشنّها جيش بلادهم في غزّة.
في زياراته الأولمبيّة طلب ماكرون من السياسيين الفرنسيين “هدنة سياسيّة”. على الرغم من ذلك بعث بثلاث رسائل سياسيّة في إطلالاته الإعلاميّة عبر تلفزيون “فرانس 2”:
1- لا حكومة قبل نهاية الألعاب الأولمبيّة لأنّ ذلك من شأنه “أن يخلق فوضى” فيها، حسب تعبيره. وأضاف: “حتى منتصف آب يجب أن نركّز على الألعاب” (الأولمبيّة). بذلك تكون الألعاب قد شكّلت فرصة له لكسب وقت أطول في مفاوضات تشكيل تجمّع “القوى الجمهوريّة”، وبالتالي لتشكيل حكومة لها الغالبيّة النسبيّة أو المطلقة في البرلمان.
2- أعاد التأكيد أنّه هو من يسمّي رئيس الحكومة. بالتالي لا مجال لفرض اسم عليه لرئاسة الحكومة، وهو ما تحاوله الجبهة الشعبيّة الجديدة. فهو قال على “فرانس 2″، “استناداً إلى تقدّم المفاوضات، ستكون من واجباتي تسمية الوزير الأوّل”.
3- دعا الأحزاب والقوى السياسيّة إلى تقديم التنازلات وأن “تجري المساومات”. وأضاف أنّها “مسألة تمارسها كلّ الديمقراطيات الأوروبيّة”. و”هذا ما ينتظره الفرنسيون”، على الرغم من “أنّه ليس في تقاليدنا”.
لبنان حمَل الشعلة
لبنان كان حاضراً في حمل الشعلة الأولمبيّة نحو العاصمة باريس. فقد شاركت امرأتان لبنانيّتان في حملها: فرح علي حسن، التي ستشارك في ألعاب الترياتلون، وكريستينا عاصي، الصحافيّة في “فرانس برس”، التي فقدت ساقها اليُمنى بقذيفة دبابة إسرائيليّة أطلقت من إسرائيل باتجاه الجنوب. وقد أصابت تلك القذيفة كريستينا وخمسة من زملائها الصحافيين بينهم عصام عبدالله، الصحافي في وكالة رويتز، الذي قضى شهيداً.
إسرائيل بين التّرحيب وعدم التّرحيب
حضور البعثة الرياضيّة الإسرائيليّة أثار جدلاً. فقد صرّح توما بورت، النائب عن “فرنسا الأبيّة”، أنّ “الرياضيين الإسرائيليين غير مرحّب بهم” بسبب الحرب على غزّة. وطالب المنظّمين بمنعهم من رفع العلم الإسرائيلي إسوة بالعلم الروسيّ، الذي مُنعت البعثة الروسيّة من رفعه. من جهته، إيمانويل بومبار، نائب مرسيليا عن “فرنسا الأبيّة” والمقرّب جدّاً من جان لوك ميلانشون، طالب باستعمال دبلوماسيّة الرياضة للضغط على إسرائيل لوقف حربها ضدّ الأبرياء في غزّة. هذا الكلام استدعى تدخّلاً من وزير الخارجيّة الفرنسيّ الذي رحّب بالرياضيين الإسرائيليين.
هذا الموقف من نائبَي “فرنسا الأبيّة” ربّما سيزيد من زعزعة الجبهة الشعبيّة الجديدة. فهو موقف يُعدّ معادياً للساميّة وترفضه كلّ القوى السياسيّة، بما فيها الحزب الاشتراكيّ، حليف “فرنسا الأبيّة” في الجبهة الشعبيّة الجديدة.
إذاً أصبح واضحاً أن لا حكومة في فرنسا قبل نهاية الألعاب الأولمبيّة. بيد أنّ السؤال: هل تتشكّل بعدها؟ ومن سيكون رئيسها؟ ومن سيُشارك فيها؟ الأجوبة رهن تقّدم المفاوضات وتقديم التنازلات التي دعا إليها ماكرون.
بانتظار ذلك فلنحصِ عدد الميداليات التي ستحرزها كلّ دولة في الألعاب الأولمبية.
المصدر: أساس ميديا