ثلاثة أيّام تفصل طلّاب الشهادة الثانوية عن انطلاق امتحاناتهم الرسميّة، ولا يزال طلّاب الجنوب يعيشون تخبّطاً وقلقاً حول مصيرهم التربويّ في ظلّ حرب غير واضحة الأفق، ووسط تخوّف من توسّعها في أيّ لحظة.
في هذا التحقيق، ننقل صرخة عدد من طلّاب الشهادة الثانويّة في الجنوب، مِمّن جاهدوا لمتابعة تعليمهم رغم الخطر والأوضاع النفسيّة الصعبة، إلى وزارة التربيّة، كما نعرض ظروف تحضيرهم للامتحانات الرسميّة قُبيل انطلاقها نهاية الأسبوع.
ثانويّة بنت جبيل الرسميّة
لم تقوَ آية على سرد ظروف نزوحها وعائلتها من بلدة بليدا إلى بيروت، في اليوم الثالث للحرب، فخانتها دموعها عند تذكُّر منزلها الذي دمّرته الغارات الإسرائيليّة، ومزّقت معه كتباً كان من المفترض أن تكون زادها المعرفيّ هذا العام.
الطالبة في ثانوية بنت جبيل الرسميّة تروي لـ”النهار” كيف عانت من التعليم “الأونلاين” في منزل مشترك مع أفراد آخرين، في بيروت، لكنّها تصرّ على التقدُّم للامتحانات لـ”نثبت للجميع أنّ طلّاب الجنوب قادرون على النجاح”، وتقول: “لم نُكمل المنهاج بعدُ، وما زلنا نتابع شرح الدروس في الوقت الذي يجب أن نراجع فيه للامتحانات الرسميّة”.
إلى جانب القلق من الحرب، عانى طلّاب ثانوية بنت جبيل خصوصاً من صدمة فقدان أستاذهم علي سعد، الذي استُشهد في كانون الأوّل الماضي بغارة على المدينة، ما خلّف لديهم أذىً معنويّاً كبيراً أثّر على مسارهم الدراسيّ.
تقول الطالبة في صفّ الاجتماع والاقتصاد، فاطمة سعد، إنّها كانت تنوي “اللجوء إلى الأستاذ علي لتعويض الفاقد التعليميّ خلال العام، بعدما بدأنا تعليمنا في منتصف شباط ولم نُنهِ المنهاج حتّى الآن”، كما تشكو “عدم مراعاة بعض الأساتذة لظروفنا كسوء الإنترنت، ولم نُمنَح وقتاً كافياً لتسليم مهامنا”.
ترى سعد في قرار وزارة التربية “الصارم” بإجراء الامتحانات الرسميّة “ظلماً” لطلّاب الجنوب، متسائلًة عبر “النهار”: “كيف نتساوى بمن تعلّم بشكل طبيعيّ في المناطق الأخرى؟ الوزارة منحت إفادات خلال الإضرابات، فيما تمتنع اليوم عن هذا الإجراء في ظلّ الحرب”. وتضيف: “فلتعتمد الوزارة علامات المدرسة خلال العام كبديل من الإفادات، بعدما طلبت من الأساتذة فتح كاميرات خلال الامتحانات المدرسيّة للتأكّد من حُسن سير التعليم”.
معاناة مشتركة بين طلّاب البلدات المسيحيّة والمسلمة
جمعت معاناة الحرب بين الطلّاب في القرى المسلمة والمسيحيّة، في أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا. فكما الحال لدى العيّنة السابقة، يروي طالبان من بلدتَي رميش وعين إبل الصعوبات التي مرّا بها في التعليم “الأونلاين” والتشويش المستمرّ للطائرات الاستطلاعيّة على شبكة “الواي فاي”. وهنا يؤكّد الطالب إيلي من ثانويّة الراهبات- عين إبل أنّه “لم نُنهِ المنهاج حتّى الآن، والتعليم هذا العام كان سيّئاً”.
أمّا في ثانوية رميش الرسميّة، فتروي الطالبة كريستين أنّ “عدداً من رفاقنا نزح من بيته ولم يستطع اصطحاب كتبه وحاجيّاته الضروريّة لمتابعة تعليمه، ولم يكن الوصول إلى الإنترنت متاحاً أيضاً في أماكن النزوح”. وتضيف لـ”النهار”: “وقعنا تحت ضغط كبير لإنهاء المنهاج قبيل الامتحانات، ناهيك عن الضغط النفسيّ وسط القصف الإسرائيليّ، وعلى الوزير الوقوف معنا وليس ضدّنا”.
ليست الغارات وحدها التي شكّلت خطراً على كريستين وعائلتها، بل إنّ الحرائق التي اندلعت لأيّام في رميش بفعل إطلاق إسرائيل قذائفَ الفوسفور أثارت الرعب في نفوسهم، خوفاً من تمدّدها إلى البيوت. إلّا أنّ هذه الظروف الصعبة ولّدت لديها إصراراً لمتابعة دروسها “لنثبت للوزير أنّ طلّاب الجنوب يمثّلون لبنان أوّلاً، وقادرون على النجاح والتفوّق”.
نزوح من عيتا الشعب ورسالة إلى الوزير
لا يوحي الدمار الهائل في بلدة عيتا الشعب بالحياة الطبيعيّة بعدما خلَت البلدة من قاطنيها، وقد توجّه البعض منهم إلى بلدات قريبة في الأيّام الأولى للحرب، ظنّاً منه أنّ الأزمة لن تطول، مثلما فعلت عائلة الطالب حسن منصور.
ثلاث عائلات نازحة من عيتا الشعب تعيش في منزل واحد في تبنين، فكيف يُمكن لمنصور متابعة تعليمه عبر “الأونلاين”؟ يقول لـ”النهار” إنّ “العام الدراسيّ كان صعباً في ظلّ انقطاع الكهرباء والإنترنت، ووسط أصوات الغارات والمدافع والتشويش”، تماماً كحال بقيّة الطلّاب في هذه المنطقة.
في شهر شباط الماضي، أطلقت وزارة التربية عبر “النهار” وعوداً بإجراءات استثنائيّة وتدابير خاصّة لطلّاب الجنوب، على غرار ما حصل مع طلّاب الشمال خلال أحداث نهر البارد، إلّا أنّ منصور يرى أنّ “الوزير نكث بوعوده وعاملنا لاحقاً كباقي المناطق، وكأنّنا أنهينا المنهاج أكثر من مرّة، فيما لا يزال الأساتذة حتّى اليوم يرسلون “الفيديوهات” والتسجيلات الصوتيّة لتكملة المنهاج”.
يأسف منصور للواقع الذي يواجهه طلّاب الجنوب اليوم، لافتاً إلى أنّه “من المفترض أن يكون وزير التربية (أب الطلّاب) ويشعر معهم في حالة الحرب”، موجّهاً إلى وزير التربية سؤالاً: “لو كان ابنك يعيش مكاننا، فهل كنت ستُرسله إلى مركز إجراء الامتحانات المتاخم للحدود؟”.
هل مراكز الامتحانات آمنة؟
الضغط الأساسيّ الذي يواجهه الطلّاب اليوم هو “الأمان”، وسط مخاوف يشكوها الطلّاب وذويهم من خطر التنقّل على الطرق وصولاً إلى مراكز الامتحانات.
غالبية الطلّاب مِمّن تحدّثنا إليهم سيجرون امتحاناتهم الرسميّة في مراكز مصنّفة “آمنة” في بلدة برج قلاوية، قضاء بنت جبيل، شرق مدينة صور، والتي لم تتعرّض لغارات إسرائيليّة عشوائيّة كبلدات جنوبيّة أخرى، فيما اقتصرت الاعتداءات على استهداف إسرائيليّ لعدد من السيّارات على أطراف البلدة.
التحدّي اليوم يكمن في المسافة التي سيسلكها كلّ من كريستين وإيلي وفاطمة وحسين من بلدات رميش وعين إبل وبنت جبيل وتبنين، والتي تتطلّب وقتاً بين نصف ساعة وساعة تقريباً، بحسب البُعد الجغرافيّ لكلّ واحد منهم، فيما وسائل النقل غير مؤمّنة لهم حتّى الساعة. والخلل الإضافيّ أيضاً أنّ وزارة التربية لم تأخذ في الاعتبار ظروف النازحين إلى خارج القضاء، وإلى بيروت تحديداً، ممّا ستُضطرّ آية للجوء إلى منزل أقاربها في بلدة معروب، قضاء صور، والقريبة من برج قلاوية، لتتمكّن من تقديم امتحاناتها.
لا يرى أبناء الجنوب أنّ “تسهيلات” وزارة التربية مُجدية، وسط تساؤل: “أيّ تسهيلات هذه في ظلّ الوضع النفسيّ الذي نعانيه”، فيما يتداول بعض الطلّاب آراءً حول عدم التقدّم للامتحانات، فـ”الأهالي ليسوا مضطرّين لخسارة أولادهم على الطرقات”.
وهنا يستذكر الطلّاب دوي جدار الصوت الذي هزّ مدينة النبطيّة منذ يومين، وأرعب طلّاب الشهادة المهنيّة في مراكز امتحاناتهم، ممّا عزّز لديهم مخاوف جمّة من تنفيذ الطيران الإسرائيليّ غارة على مراكز الامتحانات أو على الطرقات أثناء تنقّلهم. ويتساءَلون: “ماذا لو استهدفت مسيّرة إسرائيليّة سيّارة أمامنا… فالعدو الإسرائيليّ لا يؤتمن!”
الامتحانات تُراعي ظروف الجنوب
التدابير لإنجاح الامتحانات الرسميّة اتُّخذت. صرخة طلّاب الجنوب على مدى الأسابيع الماضية لاقت تفاعلاً في أروقة وزارة التربية، بالرغم من إصرار الوزير عبّاس الحلبيّ على إجراء الامتحانات.
الإنجاز الأهمّ تمثّل في إعادة تقليص المواد التعليميّة وإعادة العمل بالأسئلة الاختياريّة ضمن المادّة الواحدة، ممّا يمنح الطلّاب تكافؤاً بالفرص، ويضمن إجراء امتحانات رسميّة موحّدة للجميع وعدم “سلخ” الجنوب تربويّاً عن لبنان.
ليس الجنوب بأكمله منقطعاً عن التعليم كما كان شائعاً. 24 ثانوية حدوديّة مقفلة فقط موزّعة بين رسميّة وخاصّة اتّجهت للتعليم “الأونلاين”، وهي تضمّ 537 طالباً في الشهادة الرسميّة، فيما ثانويّات أخرى تابعت تعليمها حضوريّاً.
تكشف مصادر متابعة للملفّ التربويّ، لـ”النهار”، أنّ “أسئلة الامتحانات ستكون انطلاقاً من المنهاج الذي أكمله الطالب في مدارس الجنوب، كي لا يُظلَم مرّتين”، مؤكّدةً أنّ “التربية ستُراعي الفئة المتعلّمة عبر (الأونلاين) بعدما بدا متعثّراً”.
ووسط الحديث عن ضمان الأمن في محيط مراكز الامتحانات، تؤكّد المصادر المتابعة للملفّ التربويّ أنّ “الحياة ليست معدومة في بعض بلدات الجنوب، وكان الطلّاب يتنقّلون من بيوتهم إلى مدارسهم يوميّاً خلال العام”، وسط تشديد على أنّ “مراكز الامتحانات ليست في القرى الحدوديّة الأكثر عرضة للقصف”.
وككلّ عام، وكإجراء طبيعيّ، من المفترض أن تُنسّق وزارة التربية مع الجيش والأجهزة الأمنيّة لضمان حُسن سير العمليّة التربويّة، وسط تأكيدات أيضاً بأنّ “الحلبي يعلم شخصيّاً الواقع الجنوبيّ ويتابعه بشكل مباشر”.
وإزاء هذا الواقع، تبقى العين على إنجاح تجربة الامتحانات في ظلّ ظروف قاسية وتحدّيات لتفادي التصعيد العسكريّ خلال أيّام إجراء الامتحانات الرسميّة، وفق ما يُمكن تسميته بـ”هدنة تربويّة”.