كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
ما غدا عليه الاستحقاق الرئاسي أن لا جدوى من مبادرة تنجده: أخفقت حتى الآن على الأقل دعوة الرئيس نبيه برّي إلى الحوار، تعثّرت اجتماعات الخماسية الدولية بوزراء خارجية دولها في الخارج أو تنقّل سفرائها بين مقارّهم في لبنان، فشلت جلسة 14 حزيران 2023 بعدما رامت منها المعارضة كسر حاجز التوازن بين مرشحيْن كليْهما حيل دون حصوله على الأكثرية المطلقة، تهاوت مبادرة كتلة الاعتدال الوطني ومن بعدها تبخّرت تلك التي قادها الحزب التقدمي الاشتراكي كي يؤول المطاف بمبادرة التيار الوطني الحر إلى الاحتضار.دارت المبادرات تلك، منذ ما قبل حرب غزة بوقوع الشغور ثم ما بعدها، من حول منطق يقول إن إياً من طرفَي الانقسام يقتضي أن يخسر معركته. ذلك ما عناه أن يتمحور الاستحقاق من حول العقبة الأساس فيه: ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية و استبعاده.
تزامُن مبادرتَي الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر لم يولد، كما المبادرتين، من عدم. نصح بهما الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان عندما حضر أخيراً إلى بيروت، ولمس مؤشراً استعجل تفسيره إيجابياً على أثر اجتماعه برئيس كتلة نواب حزب الله محمد رعد في 29 أيار الفائت، وسماعه منه موقف حزبه مفاده أنه يفصل بين ما يجري في الجنوب وغزة وانتخاب الرئيس. عدم الربط هذا وجد فيه لودريان تقدّماً ملموساً في موقف حزب الله يُظهر استعداده للذهاب إلى الاستحقاق الرئاسي. بذلك توخّت المبادرتان إحراج الحزب، كلّ منهما على طريقتها: تفادى الحزب التقدمي الاشتراكي التقدّم بتصوّر مكتوب محاولاً الاكتفاء بسبل تلمّس الوصول إلى تسوية ينخرط فيها الجميع. بدوره لم يتقدّم التيار الوطني الحرّ بأفكار جديدة. انضم إلى المبادرة التي نادى بها رئيس البرلمان وهي الحوار، وقَبِلَ بترؤسه إياه في المجلس انتهاءً بعقد جلسة انتخاب بدورات متتالية. على طريقته أيضاً اجتهد رئيس التيار النائب جبران باسيل في الشق المكمّل لمبادرته، بأن توخّى توصّل ذاك الحوار إلى التخلص من ترشيح فرنجية، رغم تيقنه من تمسّك الثنائي الشيعي به. إذا بمبادرته تعود إلى النقطة الصفر كما اليوم من الشغور قبل سنة وثمانية أشهر.
قبل تينك المبادرتين، أرادت كتلة الاعتدال الوطني بدورها الاضطلاع بمسعى ما، هي غير الموصوفة ظاهراً بانحيازها إلى أي من فريقَي الانقسام، الثنائي الشيعي وحلفائه والمعارضة المسيحية وحلفائها، ما دامت لم تقترع في أي من الجلسات الاثنتي عشرة لأي مرشح. أعدت تصوّراً مكتوباً أدخلت فيه تعديلات على مبادرة برّي كانت كافية لإعطابها.
تعايُش المبادرات الثلاث أتاح الاعتقاد، والواضح أنّه ما أرادته قواها، بنشوء «قوة ثالثة» يُصطلح على أنها «وسطية»، في وسعها الفصل بين تصلّب الفريقين الآخرين وامتلاك كل منهما فيتو منع التئام نصاب ثلثَي البرلمان. تالياً تمكّنها من إيجاد حل وسط من داخل مجلس النواب ينجح حيث فشل سفراء الدول الخمس من خارجه.
في الواقع لم يُصِب الوصف الذي أطلقته، كل منها على نحو منفصل، على نفسها على أن محاولتها وسطية. في المقابل يصعب ـ إن لم يستحل ـ اجتماع المبادرات الثلاث في واحدة كي يصحّ نعتها بـ»قوة ثالثة» متماسكة قادرة على كسر الجمود.
في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية اللبنانية مرّت مرة واحدة تجربة «القوة الثالثة» في خلال «ثورة 1958» قبل الوصول إلى انتخاب الرئيس فؤاد شهاب. انتصفت فريقَي النزاع وهما المؤيدون للتجديد للرئيس كميل شمعون ومعارضوه الذين نادوا بتنحّيه قبل نهاية ولايته حتى. ضمّت «القوة الثالثة» هنري فرعون وغسّان تويني وشارل حلو ونجيب صالحة ويوسف سالم وبهيج تقيّ الدين ومحمد شقير وجورج نقاش ويوسف حتّي وغبريال المرّ، تولّت وساطات التهدئة بين الطرفين من خلال معادلة واقعية مفادها: لا يُجدَّد للرئيس ولا يُرغم على التنحي قبل الدقيقة الأخيرة في ولايته. سرعان ما انتقلت «القوة الثالثة» إلى البحث عن مخرج تجلب إليه فريقَي الموالاة والمعارضة هو اقتراحها في 15 أيار 1958 انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية. لولا التدخّل الخارجي والتأثير المباشر الأميركي ـ المصري لما نجحت ربما.
مع أن أصحاب المبادرات الثلاث الحالية لانتخاب الرئيس يوحون مباشرة أو مداورة بأنهم يرومون الاضطلاع بدور «قوة ثالثة» بين الثنائي الشيعي والمعارضة المسيحية، توصلاً إلى الخروج من عقدة فرنجية أياً تكن المخارج، بما فيها «المرشح الثالث»، إلا أن واقع كلّ منهم لا يؤهله إلى دور كذاك:
ـ لا يتردّد نواب في كتلة الاعتدال الوطني في إظهار تأييدهم انتخاب فرنجية عند الاقتضاء، رغم تلطيها بالحياد السلبي الناجم في الأصل عن فقدان الطائفة التي تمثلها مرجعيتها القادرة على اتخاذ قرار.
ـ لم يقل الحزب التقدمي الاشتراكي مرة إنه على الحياد في الاستحقاق الرئاسي، ولم يكن كذلك بعدما اقترع في الجلسات الماضية للنائب ميشال معوض ثم للوزير السابق جهاد أزعور. موقعه الحالي أن لا يصطف مع أحد الفريقين بينما يقف إلى جانب حزب الله في حرب غزة وجبهة الجنوب. ما يقول به الحزب، بدءاً من رئيسه السابق وليد جنبلاط، جهوزه للذهاب إلى أي تسوية يتفق عليها الطرفان المتناحران. الأصح أن الحزب لا يملك ما يمكّنه من الإتيان بالفريقين إلى تصوّر أو حلّ لانتخاب الرئيس ينهي الشغور.
ـ ربما الصائب القول إن باسيل أكثر أطراف المبادرات الثلاث ابتعاداً عن «الوسطية» ومكانة «القوة الثالثة». رفضه المسبق ترشيح فرنجية لا انتخابه فحسب، أحاله طرفاً مباشراً في خوض معركة ببعديْن دستوري وسياسي وإن اقتضى التقاطع مع عدوه الأول حزب القوات اللبنانية. أضف أنه أقرب إلى حزب الله منه إلى فريق المعارضة المسيحية بدعمه أولاً احتفاظ الحزب بسلاحه وتمايزه عنه ـ لا عصيانه عليه ـ في حرب غزة لشدّ العصب الحزبي.