وطنية – لارنكا – عُقِدَت في لارنكا يومي 14-15 من الحالي، ورشة عمل إقليميّة بعنوان “الشرق الأوسط بعد غزّة: التحدّيات والخيارات، في شراكة استراتيجيّة بين مجموعة “نختار الحياة” وجامعة “دار الكلمة” (فلسطين)، و”ملتقى التأثير المدني” (لبنان)، و”أكاديميّة بغداد للعلوم الإنسانيّة” (العراق)، ومركز “السبيل” المسكونيّ للّاهوت التحرّر (فلسطين)، بمشاركة 22 خبيرةً وخبيراً في اللّاهوت والعلوم الإنسانيّة والسياسيّة والقضايا الجيوسياسيّة من فلسطين ولبنان ومصر والعراق.
توزّعت أعمال هذه الحلقة على 7 جلسات، أربعٌ منها في اليوم الأوّل وثلاث في اليوم الثاني: الجلسة الافتتاحيّة أدارها ميشال نصير، وعَرَضت فيها المؤسّسات الشريكة رؤيتها والتزاماتِها في الشأن العامّ. أمّا الجلسة الثانية، بعنوان “غزّة وفلسطين: 76 عامًا والنكبة مستمرّة”، فترأستها لينا التَّنير وتكلَّم فيها جوني منصور. الجلسة الثالثة بعنوان “الدين والسياسة وتجلّياتهما في العدوان على غزّة” ترأسها زياد الصَّائغ وتحدّثت فيها فاتنة هودلي. الجلسة الرابعة حملت عنوان “غزّة وما بعد الحرب: القانون الدوليّ وموازين القِوى وازدواجيّة المعايير” ترأّسها جورج فهمي وتحدّث فيها محمد مطر. الجلسة الخامسة بعنوان “المثقّف العربيّ ودول الجنوب ودعم قضايا العدل” ترأسّها سيمون كشر وتحدّث فيها زياد الصّائغ. أمَّا الجلسة السادسة، فكانت بعنوان “أيّ شرق أوسط بعد العدوان على غزّة؟ أيّ عروبة متجدّدة؟”، وقد ترأّستها ليلي حبش وتكلّم فيها نوفل ضو. ثمّ كانت الجلسة الختاميّة بعنوان “خُلاصات وآفاق”، وناقش فيها المشاركاتُ والمشاركون.
البيان الختاميّ
وفي ختام اعمال ورشة العمل ومسلسل الجلسات وما شهدتها من مداولات، اصدر المجتمعون بيانا ختاميا اكدت فيه المشاركات والمشاركون على ما يأتي:
أوّلاً، شكَّلت أحداث 7 تشرين الأَوَّل/ أكتوبر 2023 مُنعَطَفًا في الصِّراع الفلسطينيّ-الإسرائيليّ إذ أثبتت محوريّة القضيّة الفلسطينية وكونها قضية لا تموت. ويبدو جلِيًّا أنّ التَّركيز على أحداث هذا اليَومِ من دون العَودَة إلى مسبِّباتِه إنّما هو تركيز مبتور، ويناقِض الذاكِرة الإنسانيّة الجماعيّة. أبرز هذه المسبِّبات هو الاحتلال الكولونياليّ الإحلاليّ وعدم تطبيق القرارات الدوليّة ذات الصلة وغياب المساءلة، فضلًا عن عمليّة «التطهير العرقيّ» ضدّ الشعب الفلسطينيّ، والذي يمارس على أرض فلسطين بقيادة الحركة الصهيونيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر. إنَّ ما يواجِهُه الشعب الفلسطينيّ منذ العام 1948، على مرأى من العالم، توصيفه في القانون الدوليّ والقانون الدوليّ الإنسانيّ أنّه جريمة ضدّ الإنسانيّة ترقى إلى الإبادَة الجماعيَّة.
ثانياً، إنّ هذا السِّياق المحمومِ بالدماء واستِشراءِ المَوت في فلسطين يوجِب التشديد على أنّ آلَة القَتلِ الإسرائيليَّة تجاوزت ردَّ الفِعلِ على أحداث 7 تشرين الأَوَّل/ أكتوبر 2023، وذلك برعايَة دوليّة رسميّة غير مَسبُوقَة، ما يبيّن أنَّ أيّ انسِياقٍ لتبريرِ العُنف، وتسويغ الحُلُول العسكريَّة، لن يُنتِج سِوى مزيدٍ من الموت والتَّشريد والتَّهجير والجوع والخَوف والحِقد والأفُق المسدود والصِّراع المستدام. إنَّ عسكَرَة الشَّرق الأَوسَط، مع تزخيم هذه العَسكَرَة بأيديولوجيَّاتٍ دينيَّة مُتَنَاحِرَة تنَاقِضُ الخيارات الإنسانيَّة النبيلة في التآخي والتآلف والنموّ والازدهار، وتخدُم منطِق كارتيلات السِّلاح وغُرَف افتِعال الصِّراعاتِ السَّوداء، بما يمتهن كرامَة الإنسان وقِيمَة العَدل والحقِّ بالأمن والأمان، ويدمّر كُلِّ جُهُودِ السَّلامِ القائِمة على حقّ تقرير المصير.
ثالثاً، إنَّ عَسكَرَةَ الأيديولوجيَّاتِ الدّينيَّة، والتي تمثّل فيها إسرائيل نموذجًا دَولتيًّا مُمأسَسًا منذ العامّ 1948 برعايَةٍ كولونياليَّة غربيَّة، وتصاعُد حركات تطرُّفٍ مشابِهَة أو مضادَّة، يؤشِّرُ إلى المخاطِرِ المفاهيميَّة التي تواجِهُها الأَديان إذا هي تجاهَلَت عِلَّة وجودِها، أي النضال من أجل حمايَة الإنسانيَّة وكرامتِها وسلامة مجتمعاتِها وتسيُّد العدالة فيها، وانحازَت إلى الانخراط في خياراتٍ سياسيَّة تسلُبُ الحقوق المشروعة، وتناقِضُ التنوُّع، وتزرَعُ بُذُور الفِتنَة، وتُعمِّمُ القَتل، وتنشُرُ العُنصُريَّة، وتقلِبُ الحقائق. الأديانُ المؤدلجة والمعسكرة مَقتَلَة. الأديان المنفتِحةُ على الأُخوَّةِ الإنسانيَّة خَلَاصٌ ووئام.
رابعاً، إنَّ تغطِيَة جرائم إسرائيل، والانحياز إلى سرديّتها المَشبُوهَة في تأويلِ الأَحداث، والإيغال في الدِّفاع عن عُنفِها الإجراميّ يتناقض مع مبدأي الدفاع عن النفس والتناسبيّة. في هذا السياق، تتجلّى اليوم ملامِحُ نكبَة جديدة قِوامُها جريمة ضدّ الإنسانيّة، وتهجير قسريّ، وإلغاء ثقافي وترانسفير ديموغرافيّ، وجريمة إبادة جماعيَّة، ما فعّل المواثيق والمعاهدات الدوليّة، وأوجب ملاحقة مرتكبي هذه الجرائِم للمُلاحقة أمام محكمة العدل الدّوليَّة والمحكمة الجنائيَّة الدَّوليَّة.
خامساً، إنّ السياقُ المأزوم الذي نُتَابِعُه بتعقيداتِه الجيو-سياسيَّة والأخلاقيَّة والثقافيَّة، وتشوُّهاتِه في التَّناسُق مع قِيَم حقوق الإنسان والعدالة والسَّلام والدِّيموقراطيَّة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، لم يَمنَع من بروز موجاتِ رفضٍ عارِمَةٍ للعُنف، وإدانَةٍ لجرائِم الحرب والإبادة. هي موجات قامت على عمل منهجيّ في محكمة العدل الدوليّة، بالإضافة إلى موجات شعبيّة شُجاعَة تصدَّرها إنسانويّون ولادينيّون ومسيحيّون ومسلمون ويهود، ما يفكّك السرديَّة القائلة إنّ الصُّهيونيّة تمتلِك اليهوديّة، أو إنّ اليهوديَّة مُرادِفٌ للصّهيونيَّة، أو إنّ انتقاد ممارسات إسرائيل المخالفة للقانون الدوليّ هي عداء للساميّة. فرفَعُوا الصوت تنديدًا بالحرب، معتبرين إيّاها هزيمَةً للجميع. إنَّ هذه الموجات تُعزِّزُ فرضيَّة توسُّعِ رُقعَة المُعَسكَرِ الذي يدعم السلام القائِم على العَدل، ما يُحرِّرُ العقل الإنسانيّ من موروثاتٍ ومنمَّطاتٍ كولونياليَّة متراكِمَة.
سادساً، إنّ فلسطين قضيّة إنسانيّة كونيّة. لذا، نرى ضرورة بناءِ سرديّة ذات أبعاد عالميّة تقوم على التفكُّر في معنى الحريَّة والعدالة، وتستند إلى دعم حقوق الشعوب في التحرّر وتقرير مصيرها. نجِدُ أنّ هذه السّرديّة لا بُدّ من أن تستلهم تجربة فلسطين بوصفها قضيَّةً إنسانيَّةً جامِعة. ويجدُر التّنويه، في هذا الإطار، بتطوّرٍ لافتٍ هو ما يقوم به مفكّرات ومفكّرون في الجزء الجنوبيّ من كوكبنا من مواكبة بنّاءة وجريئة للقضيّة الفلسطينيّة، مستعيدين جذور النضال القِيميّ من أجل حقوق الإنسان، الذي رسّخته المواثيق الإنسانيّة والمُعاهدات الأمميّة ربطًا بالقانون الدوليّ، والقانون الدوليّ الإنسانيّ، ما يوجب توطيد علاقات التواصل والتشبيك مع هذه الحركات في خدمة قضايا الحرّيّة.