مع أن آمالا جدية وحقيقية لم تعلق أساساً على ظاهرة تكاثف الوساطات والتحركات وتشابكها لا سيما منها الداخلية المتصلة بأزمة الفراغ الرئاسي، فإن ذلك لم يحجب واقعياً السرعة اللافتة في اتضاح عقم هذه التحركات بل سرعتها في تظهير عمق التباينات والتعقيدات التي لا تزال تتحكم بهذه الأزمة بعد سنة وثمانية اشهر منذ نشوئها. بل إن ما أمكن استخلاصه من معطيات التحركات الأخيرة ووقائعها خصوصاً بعد “انضمام” رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل في اليومين الفائتين الى هذه التحركات يمكن إجماله بأبرز النقاط الاتية:
أولاً: عادت بقوة معادلة التشدد في “الكباش” الحاد بين قوى المعارضة و”الثنائي الشيعي” حول موضوع “التشاور أو الحوار”، اذ شكل تشبّث رئيس مجلس النواب نبيه بري بشرطه ترؤس أي جلسة تشاور علناً وإعلامياً رسالة تصعيدية سرعان ما أدت إلى نتيجة سلبية لم تقتصر على “القوات اللبنانية” التي تشكل رأس الحربة المعارضة لأي تشاور أو تحاور برئاسة بري يكتسب اطار إقامة عرف مخالف للدستور، بل بدا أن قوى المعارضة مجتمعة أبلغت مساء أمس إلى جبران باسيل أنها لا تقبل بتشاور أو حوار برئاسة بري لأنه يضفي طابع التسليم بشرط غير دستوري. ويشكل ذلك تطوراً جديداً لجهة سقوط محاولات “تلاعب” القوى “الممانعة” على التمايز في سقف الموقف بين “القوات اللبنانية” وقوى المعارضة الأخرى، الأمر الذي يعيد هذه المسالة إلى النقطة الصفر.
ثانياً: أحيت السجالات التي نشأت بين كل من زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية والنائب باسيل الانطباعات السائدة بقوة حيال شبه استحالة أي توافق حول آلية توافقية يسعى باسيل نفسه، كما أصحاب الوساطات الأخرى مثل الحزب التقدمي الاشتراكي إليها، إذ سرعان ما تحوّل هذا السجال الى حملة نارية شنّها باسيل رداً على خصميه اللدودين، فرنجية ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع معاً، ووصفهما بأنهما يتساويان بسوء الحسابات.
ثالثاً: ترسم التحركات الداخلية هذه جملة تساؤلات عما إذا كان دافعها ملء الوقت الضائع في انتظار معرفة مصير الوساطة الفرنسية كما الوساطة القطرية، فيما سيبرز تركيز الأنظار قريباً على زيارة سيقوم بها أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين للبنان وتبدأ في 23 من الشهر الحالي وما يمكن أن تحمله، علماً أن بارولين التقى قبل أيام في الفاتيكان المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان خصيصاً لهذه الغاية عشية زيارته للبنان.
جولات ومواقف
وفي أبرز وقائع هذه التحركات استكمل باسيل تحركه الذي بدأه الأحد الماضي في بكركي، بلقاء الرئيس بري في عين التينة وأعلن أنه “تم التطرّق إلى التشريعات الضرورية وأهمية المناقشة بها وأكدنا عدم ربط الملف الرئاسي بما يحدث في الجنوب والمنطقة”. وأكد أنه “لا يمكن النجاح بانتخاب رئيس إلا بالتفاهم، ومن هنا فكرة التشاور أو الحوار للوصول إلى رئيس توافقي”.
أضاف: “أنا لا أحمل مبادرة وهذا ليس عملي بل مسؤوليتنا السعي مع الجميع عندما نرى فرصة مهما كان حجمها لتأمين الاستحقاق الدستوري”. ورد باسيل على فرنجية، قائلًا: “من يريد أن يطرح نفسه رئيساً أو رئيس حزب القوات سمير جعجع بدكم يعرف يحسب صحّ ويعرف مين الأول … كنا بواحد ما بيعرف يعدّ صرنا بتنين”.
ومساء زار وفد من نواب “تكتل لبنان القوي” برئاسة باسيل، بيت الكتائب المركزي في الصيفي والتقى رئيس الحزب النائب سامي الجميل مع وفد من نواب المعارضة الذي انضم إليه النائب غسان حاصباني. وأفاد مصدر أن “المعارضة ستُبلغ باسيل بأنّها لن تقبل بأيّ حوار يترأسه برّي والموقف سيكون ثابتاً حول رفض هذا الأمر”. وبعد اللقاء اكتفى باسيل رداً على سؤال عما إذا كان اقنع المعارضة أم نوابها أقنعوه بالقول “منشوف”.
وأفادت معلومات ان باسيل اقترح على نواب المعارضة اتجاهين: اما الذهاب الى التشاور معا وانتزاع ضمانات من بري بعقد جلسات متتالية ، او الاتفاق على المواجهة بمختلف الوسائل السياسية والإعلامية والتعبيرية معتبرا ان رفض الاتجاهين يعني بقاء الوضع على حاله كما يفرضه الثنائي الشيعي.
وأصدرت لجنة تنسيق نواب المعارضة مساء بيانا أكدت فيه ان “نواب قوى المعارضة يكررون تأكيدهم مجددا على انفتاحهم، السابق واللاحق، على المشاورات محدودة زمنيا كما تحصل حاليا، بعيدا عن اي تكريس لاعراف جديدة تخالف الاصول الدستورية، وغير مشروطة باي شكل من الاشكال، خصوصا لجهة فرض اسم مرشح بعينه، بحيث يقتنع الفريق الاخر بفتح ابواب المجلس النيابي امام جلسة انتخاب مفتوحة لرئيس للجمهورية وبالتزام الحضور من كافة الكتل، تطبيقا للمادة 74 من الدستور، التي تؤكد اجتماع المجلس النيابي بحكم القانون لهذه الغاية”.
وفي السياق، أفادت معلومات أن بري يصر على أن يسبق أي انتخاب لرئيس الجمهورية حوار يترأسه بنفسه، ونقل عن مصادر عين التينة “قول البعض إنه لن يشارك في حوار يترأسه برّي كلام معيب”. وفي المقابل، قالت مصادر “القوات اللبنانية” إنه “إذا أصر برّي فليدعُ الى حوار بمن حضر ومن يُريد المشاركة فليفعل ولكنّنا لن نسجّل ذلك على أنفسنا ولا نقبل بضمانات تُكرّس أعرافاً مخالفة للدستور والضمانة الوحيدة الالتزام بالدستور”.
ومن جانبه واصل الحزب التقدمي الاشتراكي جولته على القوى السياسية، والتقى وفد من اللقاء الديموقراطي برئاسة النائب تيمور جنبلاط رئيس الكتائب النائب سامي الجميّل الذي اكد جاهزيته “لتخطي الشكليات شرط الا تخالف الدستور”. وسأل: هل هناك ضمانة في المضمون تؤكد انسحاب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجيه والبحث بأسماء أخرى وأنه إذا فشل التوافق سنذهب إلى جلسة انتخابية ونحتكم للدستور؟”. وشدد على “أننا لسنا مستعدين لدفع ثمن انسحاب فرنجيه قبل البدء في الحديث بالرئيس المقبل وإذا كان المطلوب فرض فرنجيه، فلسنا في وارد السير في هذا الاتجاه”، لافتاً إلى “أننا لسنا مستعدين للاستسلام”. ورداً على فرنجية اقترح الجميل “انسحاب الأقطاب الأربعة من المعركة بدل الترشح”، موضحاً “أننا نحن الأربعة طرف ولن نقدر أن ننتخب رئيس جمهورية يكون طرفا”.
في الجنوب
وسط هذه الأجواء، تواصلت التطورات التصعيدية في الجنوب حيث دخلت طهران مجدداً على الخط، فأكّدت عبر الخارجية الإيرانية أنّ “قوى المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي إذا أقدمت إسرائيل على أي مغامرة في لبنان”. وفي المقابل، قال مسؤول إسرائيلي لـ”رويترز”: الحرب في لبنان ليست حتمية وأبدينا انفتاحنا على الجهود الدبلوماسية لباريس وواشنطن.
وتواصلت المواجهات، إذ اعلن “حزب الله” أسقاط مسيرة اسرائيلية فوق اقليم التفاح بصاروخ ارض جو. وفيما أكد الجيش الإسرائيلي “إسقاط مسيّرة تابعة لسلاح الجو في سماء لبنان وهي الخامسة منذ بدء الحرب”، أعلن “حزب الله” أنه “أثناء المراقبة والمتابعة الدائمة لحركة العدو في الأجواء اللبنانية، كمنَ مجاهدو المقاومة الإسلامية لمسيّرة من نوع هرمز 900 مسلحة بصواريخ لتنفذ بها اعتداءات على مناطقنا، وعند وصولها إلى دائرة النار استهدفها المجاهدون بأسلحة الدفاع الجوي قبل تنفيذ اعتدائها وأصابوها إصابة مباشرة وتم إسقاطها”. وأفيد لاحقاً أن الطيران الحربي الإسرائيلي شنّ غارة مستهدفاً مكان وقوع المسيّرة في مرتفعات جبل الريحان. كما شنّ غارة أخرى مستهدفاً بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل. وأفيد عصراً عن غارتين جويتين على دفعتين على بلدة عيتا الشعب.