لا تعترف أميركا و”إسرائيل” بالشرعية الدولية، عدالتها انتقائية، بمعايير مزدوجة، فإذا ما مسّ القضاء الدولي مصالحَها تصبح أقواس المحاكم في قفص الاتهام، فبدل أن تُلاحق تلاحَق وبدل أن تُحاسب تحاسَب، وبدل أن تصدر الأحكام يصدر الحكم بحقها وبدل أن تعاقب تعاقَب، تمامًا كما حصل مؤخرًا في مجلس النواب الأميركي الذي شرّع جهابذته قانونًا جديدًا يعاقب المحكمة الجنائية الدولية، لجرأتها للمرّة الأولى في التاريخ على مساءلة وملاحقة قادة الكيان الصهيوني وجيشه (إصدار المدعي العام للمحكمة كريم خان مذكرات توقيف بحق رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت) على ارتكاباتهم المهولة في قطاع غزة، رغم أن توصيفها الجرمي ينطبق عليه “جرائم حرب” و”جرائم إبادة” و”جرائم ضد الإنسانية”، وهذا هو صلب اختصاص الجنائية الدولية وفق المادة الخامسة من نظام روما الأساسي التي تمنحها الحق بملاحقة ومحاسبة مرتكبي تلك الجرائم.
من مفارقات الدهر، أن واشنطن التي لطالما استخدمت المحاكم الدولية سابقًا وكذلك مختلف أجهزة الأمم المتحدة، بغية الاقتصاص من أعدائها والتخلص منهم (محكمة نورنبرغ لمحاكمة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية نموذجًا)، باتت اليوم تجهد لرفع السيف القضائي المصلت على رقبة ربيبتها “إسرائيل”، بعدما كُشف القناع عن وجهها، وبانت حقيقتها “الوحشية والدموية” في غزة، وعرف العالم كله حقيقة الخديعة والغدة السرطانية التي تفشت وتغلغلت بين جنباته فانتفض لكرامته في الشوارع والعواصم والجامعات الغربية..
لطخت دماء أطفال غزة صورة الكيان الغاصب ومعه “البيت الأسود”، كما عرّت المنظومة الدولية وأظهرت عجزها وأنها ليست سوى سلاح بيد أميركا لمواجهة أعدائها، أما حلفاؤها في “إسرائيل” “شعب الله المختار” فهم فوق قانونها وقضائها، وفوق المحاسبة والمساءلة، وفوق مجالسها ووكالاتها، فلا مجلس أمن يدين اعتداءاتهم (الفيتو الاميركي جاهز)، ولا وكالة دولية للطاقة الذرية تفحص منشآتهم النووية، ورغم كل هذه الحصانات والامتيازات التي وفّرتها أميركا لهم، مزّق مندوب “إسرائيل” في الأمم المتحدة ميثاق المنظمة مؤخرًا من على منبرها، في وقت واصلت فيه حكومة كيانه عدوانها على غزة بكل صلف وتعنت غير آبهة بقرار محكمة العدل الدولية بوقف الهجوم البري على مدينة رفح فورًا، واتخاذ تدابير مؤقتة لمنع وقوع أعمال “إبادة جماعية”، وتحسين الوضع الإنساني المزري بالقطاع.
التجاهل الإسرائيلي لقرارات محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية رافقه تهجم أميركي عليها سواء عبر إتهام الجنائية بـ”الانحياز”، ومسارعة مجلس النواب الأميركي إلى سن قانون (بأغلبية 247 صوتاً مقابل 155) يفرض عقوبات على المحكمة، أو بإعلان الرئيس بايدن عدم اعتراف واشنطن باختصاص المحكمة الجنائية الدولية وأن محاسبة “إسرائيل” و”السياسيين الإسرائيليين” ليست من ضمن صلاحياتها، مانحًا بذلك قادة الاحتلال حصانة قضائية، ما يعني أن بايدن أعطاهم ضوءًا أخضر لمواصلة جرائمهم في غزة وارتكاب المزيد منها، لأن ثمة من يضمن لهم الإفلات من العقاب، والمحاسبة والمساءلة في الجنائية الدولية.
لا شك أن فرض العقوبات الأميركية على الجنائية الدولية من شأنه أن يعطل ويعرقل عملها، لأنه يضع القضاة والمحققين والأفراد المشاركين في اعتقال أو احتجاز أو محاكمة الـ”محمي من الولايات المتحدة وحلفائها”، تحت مطرقة ضغوطات وعقوبات تشمل حظر المعاملات العقارية الأمريكية وحظر وإلغاء التأشيرات، وبما أن الجنائية الدولية لا تمتلك آلية إنفاذ خاصة بها، وهي تعتمد على دعم الدول للاعتقالات، تصبح أحكامها رمزية ومعنوية خاضعة لسياسات الدول وتقاطع المصالح، واسترضاء واشنطن، أو الخشية منها.
بعد ثمانية أشهر من بدء العدوان الصهيوني على غزة في ظل الدعم الأميركي اللامحدود لحكومة الاحتلال، هل ثمة من يشكك بعد اليوم بالشراكة الأميركية والمسؤولية الكاملة عن حرب الإبادة التي سفكت دماء عشرات الآلاف من الأبرياء العزل في القطاع؟ ألم تسارع الأساطيل الأميركية إلى نجدة الكيان بعد طوفان الاقصى؟ ألم تقدم واشنطن المساعدة المالية تلو الأخرى لـ”سرائيل”؟ ألم تفتح لها جسرًا جويًا لمدها بأحدث الصواريخ والقنابل المدمرة والخارقة للتحصينات؟ ألم تجنّد طاقمها الدبلوماسي للتسويف والمماطلة بهدف كسب الوقت؟ واليوم مجددًا تكشفت واشنطن عن حقيقة موقفها من العدوان ليس فقط في كل هذه المسارات السياسية والمالية والعسكرية، بل حتى بالمسار القضائي والقانوني، سواء حينما وكلت نفسها محامي دفاع عن قادة العدو بوجه الجنائية الدولية، أو حينما سعت لعرقلة مسار محكمة العدل الدولية والدعوى القضائية التي تقدمت بها جنوب أفريقيا بهدف وقف العدوان على غزة.
المصدر : العهد الاخباري