عذراً سيد لودريان: لبنان السياسي انتهى منذ 55 عاماً

نُقل عن الموفد الفرنسي الخاص جان إيف لودريان قوله انّ «لبنان السياسي سينتهي اذا بقيت الأزمة على حالها ومن دون رئيس للجمهورية ولن يبقى سوى لبنان الجغرافي»، ولكن المشكلة اللبنانية سياسية وجغرافية في آن معاً، كيف؟

تمحور قسم كبير من الانقسام في زمن الجمهورية الأولى بين قائلٍ بنهائية الكيان اللبناني وحدوده الدولية، وبين من اعتبر لبنان كيانا مصطنعا تم اقتطاعه من أمة إسلامية او وطن قومي عربي. وبعد ان حسم اتفاق الطائف هذه الإشكالية بمعادلة مركّبة تُرضي المسيحيين بنهائية لبنان وتُرضي المسلمين بهويته العربية، برز انقسام جديد مع الجمهورية الثانية يقوده «حزب الله» بثلاثة عناوين:

العنوان الأول، أسلمة لبنان على طريقة ولاية الفقيه الإيرانية، وأكد الشيخ نعيم قاسم انّ هذا الهدف نابع من إيمان وعقيدة وقناعة، ولكن الأسلمة تتم بالإقناع لا القوة.

العنوان الثاني، جعل لبنان جزءا من المحور الإيراني مع فريق لا يؤمن بحدود وكيانات ودساتير ودول.

العنوان الثالث، التمسُّك بسلاح غير شرعي بحجة مقاومة تحول دون قيام دولة فعلية، وتُبقي الحدود سائبة ومشرعة.

وهذا الانقسام المثلّث بعناوينه يعني ان الخلاف في لبنان مزدوج: سياسي وجغرافي، حيث ان هناك من يُلحق لبنان بقوة الأمر الواقع بمحور إقليمي حوّل جغرافيته إلى مساحة مفتوحة لا حدود فيها، وتحوّل معها لبنان الجغرافي إلى مجرّد جغرافية شكلية بلا حدود، فلبنان موجود بالاسم، ولكنه يشكل بالفعل جزءاً لا يتجزأ من السلطنة الإيرانية.

فلبنان في زمن السلطنة العثمانية كان موجودا ولكن جغرافيته كانت جزءا من هذه السلطنة، وقراره السياسي في يد السلاطين العثمانيين، وعندما أعيد ترسيم حدود لبنان بعد الحرب العالمية الأولى تحت مسمّى لبنان الكبير نجح في بسط سلطة الدولة بعد نيله الاستقلال عن فرنسا، ولكن هذه السلطة دامت 26 عاماً فقط، اي بين عامي 1943 و 1969 مع اتفاق القاهرة الذي أعاد لبنان ساحة إقليمية مشرعة الحدود، ومنذ ذلك الوقت ما زال لبنان الجغرافي من دون سيادة ولا حدود، فإمّا كان مُلحقاً بقرار فلسطيني وإمّا بقرار سوري أو إيراني.

وقد يقول قائل ان مشكلة لبنان سياسية لا جغرافية لسببين:

السبب الأول: كَون حدود لبنان الجغرافية هي حدود دولية لا يمكن لفريق تغييرها، وبالتالي هذا المعطى ثابت لا متحوِّل.

السبب الثاني: كَون النزاع السياسي يحول دون ان تبسط الدولة سيادتها على كامل أراضيها، ومعالجة هذا النزاع السياسي عن طريق حسم نهائية لبنان تقود إلى تثبيت السيادة على جغرافية لبنان، وبالتالي النزاع من طبيعة سياسية لا جغرافية.

وإذا كان صحيحاً هذا القول شكلاً، إلا انه خاطئ في المضمون، لأن جغرافية لبنان شكلية لا فعلية باعتبار ان النزاع السياسي المثلّث الذي شهده لبنان، اي الفلسطيني والسوري والإيراني، عطّل دور الدولة وأنهى السيادة، فجغرافية لبنان غير مسيّجة وغير مصانة ومفتوحة على جغرافيات أخرى بمسميات مختلفة ومضمون واحد وهو سيطرة المشروع الممانع على هذه المساحات.

وكلام السيد لودريان عن ان «لبنان السياسي سينتهي» غير صحيح، لسبب بسيط وهو ان لبنان السياسي انتهى منذ العام 1969، وبالتالي انتهى منذ 55 عاما، وهذا اللبنان السياسي غير موجود بعد تنقُّل قراره من فلسطيني إلى سوري فإيراني، ولذلك، هو يحذِّر من شيء غير موجود، إذ ماذا يمكن ان يحصل أسوأ من الحاصل اليوم في ظل فريق يُعلن الحرب ويُمسك بالحدود ويعطِّل انتخاب رئيس للجمهورية واستطراداً الدستور برمّته؟

وتحذير السيد لودريان جاء في معرض سعيه لانتخاب رئيس للجمهورية، وهو يوحي بتحذيره بأنّ استمرار الشغور سيؤدي إلى انتهاء لبنان، فيما إنهاء هذا الشغور يعالج مشكلة من مشاكل أعمق وأكبر بكثير، إذ ان انتخاب الرئيس لن يحلّ معضلة إعلان «حزب الله» للحرب، ولا معضلة الحدود المفتوحة مع إيران، ولا معضلة المؤسسات المشلولة مع فريق لا يريد قيام دولة وقضاء وإصلاحات، ولا تثبيت الاستقرار.

ويعتقد السيد لودريان انه بتحذيره يُخيف اللبنانيين ويدفعهم إلى الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية، فيما الفريق المعطِّل للانتخابات الرئاسية لا يكترث إذا انتهى لبنان السياسي او لم ينته، إنما يكترث فقط لإبقاء هذا اللبنان ساحة من ساحات محور الممانعة ضمن السلطنة الإيرانية.

وإذا كان المجتمع الدولي حريصاً على لبنان السياسي والجغرافي، فعليه ان يضع جهده لإخراج لبنان من سيطرة السلطنة الإيرانية، وهو لا يقوم بأي مجهود جدي منذ العام 1969، ولبنان ليس استثناءً في ظل أزمات تعصف بدول كثيرة يجد المجتمع الدولي نفسه عاجزاً عن معالجتها، ولكن هذا لا يبرِّر تقاعسه في معالجة الأزمة اللبنانية كَون وجهها الأساسي إقليمي ناتج عن النفوذ الإيراني العسكري من خلال «حزب الله».

ولا يختلف الوضع في لبنان اليوم عن وضعه في زمن الاحتلال السوري وتخلّي المجتمع الدولي عنه، وهذا المجتمع الذي يعتبر لبنان جزءا من الشرعية الدولية مطالَب بصيانة السيادة اللبنانية، ولا أحد يطلب منه معالجة النزاعات الداخلية بين اللبنانيين حول النظام السياسي وشكله وتطبيق دستوره، لأنهم على هذا المستوى قادرون على تدبُّر أمورهم، إنما المطلوب منه ان يمنع دولة إقليمية من التدخُّل بشؤونه، وهذا ما ليس باستطاعة اللبنانيين مواجهته كونه يتجاوز قوتهم وقدرتهم.

وعلى المجتمع الدولي، في حال أراد مساعدة لبنان لإعادة إحياء وضعيته السياسية، ان يقوم بخطوة من خطوتين أساسيتين:

الخطوة الأولى: ان ينشر قوة دولية على الحدود اللبنانية-السورية وفي المطار والبحر لمنع دخول سلاح من إيران إلى لبنان، والقرار 1701 تحدثَ بوضوح عن «منع مبيعات أو إمدادات الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان عدا ما تأذن به حكومته»، ولكن يستحيل الاتّكاء على الحكومة في تطبيق قرار من هذا النوع، لأن «حزب الله» أقوى من الدولة. وبالتالي، منع دخول السلاح هو مسؤولية دولية، فهل المجتمع الدولي في هذا الوارد؟

الخطوة الثانية: ان يضع تنفيذ القرارين 1701 و 1559 تحت الفصل السابع، وان يتولى المجتمع الدولي تنفيذهما كَون لبنان عاجز عن ذلك، فهل المجتمع الدولي في هذا الوارد؟

وهذا عدا عن دور المجتمع الدولي في وقف الحوار مع إيران وتوجيه إنذار حاسم لها بضرورة إيقافها تمويل ميليشياتها وتسليحها، ودور طهران أخطر من سلاحها النووي بمنعها أربع عواصم عربية من ان يكون لها دولة وسيادة، والخِفّة الدولية بالتعاطي مع إيران والتسليم بدورها المزعزع للاستقرار الإقليمي غير مقبولين بتاتاً.

وتأسيساً على ما تقدّم، وبدلاً من ان يحذِّر السيد لودريان من ان «لبنان السياسي سينتهي ولن يبقى سوى لبنان الجغرافي»، فيما لبنان السياسي انتهى منذ زمن الطويل، على دولته الصديقة تاريخياً للبنان ان تُبادر لإعادة الاعتبار للبنان السياسي من خلال وضع حدّ لدور السلطنة الإيرانية وإخراج لبنان من دائرة سيطرتها ونفوذها، فضلاً عن ان موقف السيد لودريان يصوِّر المشكلة بأنها مَحض لبنانية وكأنه يخاطب ضمير اللبنانيين لحلها، فيما المشكلة الجوهرية إيرانية بامتياز.

المصدر : الجمهورية