“ليبانون ديبايت”
يكثّف جيش الإحتلال قصفه واعتداءاته على البقاع. وفي مقابل تصنيف المقاومة جبهة الجنوب على أنها الميدان الرئيسي للقتل، يضع العدو ضمن أولوياته البقاع ويصبّ تركيزه على الميدان هناك بوصفه هدفاً استراتيجياً لتقليص قوة المقاومة جنوباً بشكلٍ تدريجي عبر القبض على عنقها شرقاً. ويعتقد العدو أن بإمكانه فرض “حالة استنزاف” على المقاومة في الجنوب لفرض متغيرات عليها. غير أن المقاومة في المقابل، مدركة تماماً لطبيعة هذا الأمر وقد بادرت مسبقاً إلى شنّ معركة استنزاف عليه.
من الواضح أن العدو، وبعد رصد جغرافية قصفه في البقاع ووتيرته، يرمي إلى إنشاء “منطقة عازلة” يبسط سيطرته عليها بالنار على غرار “المنطقة العازلة” التي يسعى لإنشائها ضمن شريط معين لا يتجاوز عمقه الـ3 كلم مربع من الجنوب (سبق أن كان بعمق 10 كلم). ويرمي من وراء “شريط البقاع”، إنجاز مهمة قطع التواصل وخطوط الإمداد بين المقاومة وعمقها السوري. لذلك ينشط العدو في هذه الأثناء بتعطيل المعابر، الرسمي منها وغير الرسمي بين لبنان وسوريا من خلال القصف والأحزمة النارية والإطباق الجوي والإستخباراتي عبر المسيّرات وغيرها، كمرحلة أولى، ويسعى إلى تطبيق سيناريو حصار قاسٍ لجنوب لبنان إنطلاقاً من البقاع كمرحلة ثانية. وفي حين قرئت عملية الإبرار (الإنزال) التي نفذها العدو على شاطئ البترون شمال لبنان بعيداً عن منطقة العمليات العسكرية المفترضة، على أنها تأتي في سياق الحرب الأمنية التي يشنّها العدو، لا يُستبعد أن يعمد الإحتلال إلى تكرار المحاولات نفسها ولكن في منطقة ثانية، على رأسها البقاع في تكرار لتجربة عدوان تموز / آب 2006 إذ يسعى بكل وضوح معتمداً على وتيرة القصف إلى تفريغ المدن والقرى والبلدات هناك من سكانها بشكل شبه كلي. وعندما يُعاين عدم تعاون معه في هذا الإتجاه بعد نشره تحذيرات مزعومة، يصبّ جام غضبه عليها قصفاً واستهدافاً وتدميراً وقتلاً، كما حصل في كل من الأمهزية، طاريا، ويونين خلال الأيام الماضية حيث ارتكب العدو مجازر راح ضحيتها مدنيون، إستهدفت أولاً وأخيراً توسيع شعاع تهجير الناس ونطاق بثّ الرعب والخوف بينهم.
من هذه النقطة، يمكن فتح الباب على “بنود سرية” حملها بيان “الإذعان” الذي طالبت إسرائيل لبنان الإلتزام به تحت مسمّى “مسودة وقف إطلاق النار” برعاية أميركية، وتنص بكل وضوح على فرض احتلال مباشر وغير مباشر على لبنان. ويبدو أن المتطلبات الإسرائيلية المدعومة أميركياً والمرفوضة لبنانياً، تجاوزت حد فرض إطباق إستخباراتي دائم ومستمر على لبنان من خلال ترك المقاتلات تتولى مهمة احتلال أجوائه، أو ترك صلاحية تحرك العدو عسكرياً على الأراضي اللبنانية خياراً متاحاً في أي وقت يريد، إنما اشتملت البنود التي نقلت بعض مضامينها إلى بيروت بشكلٍ غير رسمي، على إعادة هيكلة قوات الجيش اللبناني التي من المقرر أن يتم نشرها في منطقة جنوب الليطاني عندما يتمّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وعندما يتم التأكد من عدم بقاء أية مواقع أو وجود ل”حزب الله “في المنطقة! وفُهم أن العدو يريد الإشراف على نشر هذه القوات التي سوف تذهب مهمة تمويلها وتجهيزها إلى الأميركيين، بما يشمل التأكد من عدم ارتباط عناصرها أو ضباطها مع بيئة الحزب أو الحزب نفسه. وليس مستبعداً أن يُطالب العدو بالتنسيق معه في شأن تحديد المواقع التي يجب على هذه القوات أن تُعسكر فيها.
والأسوأ يستقر في مسألتين. الأولى رغبة العدو في فتح بند متعلق بنشر قوات معززة من الجيش اللبناني عند الحدود الشرقية مع سوريا، تعاونها قوات غير لبنانية (قد تكون اليونيفيل أو قوات أخرى أميركية أو بريطانية أو متعددة الجنسيات – مع الأخذ بالحسبان الأزمة التي قد تنشأ مع روسيا المتواجدة داخل الأراضي السورية) بما يشمل تعزيز أبراج المراقبة. ولعل الأهداف المصاحبة لعمليات القصف العنيفة الجارية الآن في البقاع تكمن في فرض هذا البند. المسألة الثانية تتصل برغبة واضحة لدى العدو (عبر عنها في وقتٍ سابق) في تحويل “اللقاء الثلاثي الشهري الدوري” الذي يلتئم في مقر الأمم المتحدة في الناقورة ويجمع ضباطاً من الجيش اللبناني والإحتلال واليونيفيل بشكلٍ غير مباشر، إلى “لجنة تنسيق (أو إرتباط) عسكرية”، بحيث يتم خلالها تبادل المعلومات بين لبنان وكيان العدو من خلال الأمم المتحدة. ولعل العدو يريد عملياً تقديم معلومات – أهداف إلى الجيش حول تحركات المقاومة (إن توفرت) للتعامل معها وفقاً لما يمليه نص المسودة المرفوضة لبنانياً.
تهجير الشيعة نحو سوريا والعراق
عملياً، عمليات القصف العنيفة التي تُشنّ على البقاع لا يُقصد منها فقط تمرير أهداف عسكرية أنما مدنية أيضاً. يتصل ذلك بتوسيع شعاع النزوح على مستوى المناطق ذات الغالبية الشيعية، وصولاً لدفع الشيعة للإستقرار في مناطق معينة (يتمركزون الآن في مناطق جبل لبنان الجنوبي والشمال وبنسبة معينة بيروت)، فيما يبدو أن الهدف – المرتكز بالنسبة إلى العدو، هو فتح باب تهجير الشيعة إلى خارج الحدود نحو سوريا أو العراق (بحسب التقديرات الأمنية، غادر إلى سوريا لغاية الآن حوالي 80 ألف لبناني وإلى العراق ما يقارب 30 ألفاً بينما اختار حوالي 15 ألفاً التوجه إلى مصر)، أي عملياً نحن أمام محاولة تلاعب واضحة بالتركيبة الديمغرافية اللبنانية لتمرير متغيرات بعيدة المدى من شأنها التأثير في المعادلات السياسية الداخلية. غير أن العراق، مثلاً، بصفته عنواناً دائماً للتهجير، أخذ يعدّل في طريقة تعاطيه مع مسألة النزوح بشكل عام. فعندما قبل في مستهل استقبال الحالات من لبنان توفير تسهيلات بما يشمل أماكن السكن وتوفير المساعدات، إختار بعد شهر من الحرب أن يوفر المساعدة ويقدم تسهيلات في مجال توفير وظائف وأعمال لهم من خارج الوظائف الرسمية وذلك لإعالة أنفسهم والتخلي عن دعم الدولة، مع إبلاغ النازحين اللبنانيين بأن عودتهم إلى بلادهم مسألة وقت لا أكثر ريثما تنتهي الحرب.