تحقيق محمد أبو إسبر
وطنية- بعلبك- هجّر العدوان الإسرائيلي المتواصل على مدينة بعلبك، بخاصة منذ الأسبوع الأخير من شهر تشرين الأول الماضي، أكثر من 70 % من أبنائها، بعد سلسلة غارات شنها الطيران المعادي على المدينة ومحيطها، وارتكابه المجازر بحق المدنيين الآمنين، وإطلاقه التهديدات باستهداف أبنية وأحياء سكنية في كل أنحاء المدينة، دون أي رادع أو أفق، وحتى الآثار التاريخية، والقلعة التي صنفتها منظمة “اليونسكو” ضمن لائحة التراث العالمي لم تسلم جنباتها ومحيطها من الاستهداف، وبالتالي لا حماية ولا ضمانة للآثار وعظمتها لدى عدو لا يأبه بكل المواثيق والعهود الدولية، وهو الذي كان قد استهدف محيط القلعة والمواقع الأثرية الأخرى أكثر من مرة، سواء بتدميره لقسم من السور الروماني عند أطراف ثكنة “غورو” التاريخية المحاذية للقلعة ولقبة “السعيدين”، أو بقصفه للوسط التجاري على بُعد أقل من 300 متر من المعابد الرومانية، وتدميره جزءا كبيرا من ذاكرة البعلبكيين المبنية.
كما نفذ أكثر من غارة على مَقرُبة من قبة دورس، لجهة مدخل المدينة الجنوبي، وحول معلم حجر “الحبلى” في حي الواد، الذي يضم أكبر صخرة منحوتة في العالم أجمع، والذي كان أحد مصادر حجارة قلعة بعلبك التي لم يُسمح لها حتى باحتضان أبنائها، أحفاد بُناتها، هرباً من آلة الحرب والإجرام الإسرائيلية.
وكذلك لم تسلم مستشفيات المدينة من التهديد والتعرض لأضرار كبيرة، بل إن بعضها خرج من الخدمة لمرات عدة، كما هو حال مستشفى المرتضى الذي دمرت بعض منشآته ومعداته بسبب عصف الغارات المجاورة له، ناهيك عن الأضرار المادية التي أصابت كلًّا من مستشفى دار الأمل الجامعي ومستشفى بعلبك الحكومي، والمستشفيات لجهة المدخل الشمالي، نتيجة الغارات المجاورة لها.
وكان للمدارس الأكاديمية والمعاهد الفنية والمهنية والفروع الجامعية، نصيبها من الأضرار المادية، وبعض تلك المؤسسات التربوية لم تبدأ بأعمال الصيانة بعد، لوقوعها ضمن أحياء تتعرض للغارات العدوانية شبه اليومية.
وكذلك المؤسسات والمنشآت السياحية كان لها نصيبها من الأضرار، سواء بالاستهداف المباشر كما هو حال مقهى ومطعم مشاوي الرضا، أو بشكل غير مباشر في بعض المؤسسات السياحية بسبب تداعيات وعصف الغارات العدوانية المجاورة لها، وهذا ما أصاب مطعم العجمي جار القلعة، ومقصد الكثير من الفنانين الكبار اللبنانيين والعرب والعالميين الذين شاركوا في مهرجانات بعلبك الدولية، أو مطعم ليالينا، ومطاعم محلة رأس العين، ومنها مطعم قصر بعلبك، ومقهى صيدح، والنهر الخالد وديوان الحلاني وسما بعلبك، وكازينو رأس العين، وصولا إلى أوتيل كنعان ومحيطه.
وكل المجازر والدمار والتهديد والوعيد، والخطر المحدق بالبشر والحجر، لم يفتّ من العزيمة وإرادة التحدي لدى البعلبكيين الذين يصرون على التنزه في مرجة رأس العين، وعلى ضفاف بركة البياضة، وإطعام طيور البط والإوز والحمام الملازمة لمياهها وجنباتها، وحول البحيرة وعلى محاذاة النهر، والتمتع بمشهدية آثار قلعة بعلبك عن قرب أو على مسافة منها لجهة أوتيل “بلميرا” الذي يختزن حكايا لم تبدأ بالإمبراطور غليوم الثاني ولم تنته مع كبار الفنانين والنجوم.
وعلى مرمى خطوات يتبارك البعلبكيون بمقام السيدة خولة طفلة ووديعة الإمام الحسين، وبشفيعة المدينة القديسة بربارة. فهنا في مدينة الشمس نجد الترجمة العملية لمقولة العيش المشترك، بل الواحد، في لبنان الرسالة، حيث يعانق أذان المساجد أصداء أجراس الكنائس، مع إصرار على الحياة وإعادة بناء ما هدمته يد الغدر والعدوان